أذكر تلك الأيام جيدًا، أذكر ذلك الوقت الذي كنا فيه صغارًا نبحث فيه لأنفسنا عن هوية تلملمنا، عن راية حرة تضمنا تحتها، عن صورة وطن لا يوجد به جرح، عن معنى له نعرفه لنتعلق به على الفور، عن وتد ضارب بجذوره في أقصى أعماق أرض غالية، أرض طالما رددنا اسمها من قبل أن نعرف عنها وعن حكاياتها شيئًا نذكره -سيناء- كلمة رددنا حروفها أنغامًا، أنشدناها فاحتوتها قلوبنا الصغيرة من قبل أن ندرك المعنى الحقيقي للاحتواء ذاته، حفظناها عن ظهر قلب، رسمناها فوق جباهنا شمسًا ساطعة، شاهدناه في ليلنا قمرًا منيرًا، تسامرنا تحت نوره، سردنا حكاية ذلك الجزء الغائب من الوطن، لكننا كنا نؤمن بأنه سيعود يومًا، سيعود حتمًا.
كم سمعت هذا الاسم الحبيب يتردد في أوقات تجمع العائلة والأهل، فقد كانت أغلب العائلات تروي قصة القطعة الغائبة المغتربة عن باقي أرض مصر لأبنائها وأحفادها لكيلا ينسوا يومًا أو يتناسوا، أذكر أيضًا أننا كنا ندرس في كتبنا دروسًا تحكي حكاياتها، تقصها علينا على قدر استيعابنا وفهمنا لحقيقة الأمر، تقربنا من يوم مجيد سوف تتحرر فيه الأرض، تنبئنا بأخبار يوم لم يأت بعد، يوم سنستعيد فيه الكرامة، العزة المختلطة بفخر، نسعد فيه بفرحة مكتملة، بعودة الحق مجددًا لأصحابه، يوم سنرفع فيه رايات انتصارنا على كل غاصب ظن أنه قد اختطف قطعة من الأرض، قطعة من القلب، لقد خاب ظنه حين حسب أن المصريين سينسوا حكاية لم يتوقفوا يومًا عن ذكرها، عن تذكرها إن طال العمر أو قصر.
وها هو قد جاء هذا اليوم الذي عادت فيه سيناء لحضن الوطن الأم -مصر- في يوم الخامس والعشرين من شهر أبريل من العام ألف وتسعمائة واثنين وثمانين، ذلك اليوم الذي أشرقت فيه شمسنا على تحرير أغلى قطعة من أرض مصر، الأرض التي باركها الله بتجليه عليها، شرفها ورفع قدرها؛ كلما تخيلت هذا الحدث بكل جلاله وقدسيته، سكنني الفخر، ملأني شعور بالتباهي بهذا الاستثناء الفريد؛ فأي شرف هذا الذي منحه لنا إلهنا، أي عز هذا الذي وهبه لساكني هذه الأرض، أي بركة تلك التي حلت بأرضنا، سكنت كل قلب من قلوب هذا الشعب؟
إنه يوم ليس كباقي الأيام، يوم مجيد، يوم يدرك قيمته كل مصري شريف حر، إنسان يقدر معنى الوطن والانتماء إليه بكل ما فيه من موارد خير ومن مساحات أرض، من حضارة لا تضاهيها حضارة، من حكايات محبة تم نقشها على جدران معابد، علقت في أيقونات كنائس، رسمت فوق محاريب مساجد، تكونت بالإخاء، بالترابط المنسوج بالود، صارت مصر تشبه لوحة من فسيفساء تزينت بالفيروز، فارتسمت عقب ذلك ابتسامة أضاءت وأنارت وجه كل فرد.
عاشت مصر حرة أبية، عاش رئيس وجيش، شرطة وشعب، عاش رجال يعملون في الظل بلا كلل أو ملل من أجل نصرة الحق والحفاظ على هذه الأرض الطيبة، يحولون بينها وبين تدبير كل شياطين الأرض التي تتسابق لزعزعة استقرارها والنيل من أمنها وسلامها، رحم الله شهداء الوطن الذين جادوا بأرواحهم الطاهرة من أجل تحرير الأرض وصون العرض.