لا نعتقد أن ما جرى على أرض مصر منذ 50 عامًا، وما بعدها صار تاريخًا، بل إن ما يجرى في إقليمنا، ومن حوله يجعل دراسة ذلك الماضي واستيعابه ضرورة لا غنى عنها.
في كل وقت تتجدد الدروس والرسائل والإشارات والخلاصات، وتمثلت أهم دروس تحرير سيناء، في ترسيخ إستراتيجية “السلام”، كخيار مصر الأول، حيث برهنت معركة استرداد سيناء ومن بعدها استعادة طابا، على تكامل قدرات القوة المصرية العسكرية، والدبلوماسية والقانونية، فلا حق دون أن تصونه قوة، ولا قوة دون أن يوجهها عقل راجح.
عندما نحتفل بذكرى تحرير سيناء، نمد عينًا نحو الماضي القريب، نتذكر كيف استجاب الجيش المصري العظيم للتحدي الكبير، ونمد عينًا أخرى، فنرصد بها ما يجرى من حولنا من تحديات جسام، في إقليم يقف على أطراف أصابعه بقلق، في وقت تقف فيه المنطقة على حافة خطر حقيقي وانفجار غير محسوب العواقب.
والرسالة اليوم من سيناء، أرض التاريخ العريق الذي سطرته بطولات المصريين، وتضحياتهم الكبرى لحمايتها، هي أنها بالفعل البوابة الشرقية، وحصن الدفاع الأول عن أمن مصر وترابها الوطني، سيناء الغالية هي الأرض التي عبر منها الأنبياء، مر منها النبي عيسى في رحلة العائلة المقدسة إلى مصر، واستقبلت الفتح الإسلامي العظيم.
وتلقى فيها النبي موسى الوصايا العشر على جبل الطور، ومر بها النبي إبراهيم أثناء رحلته إلى مصر مع زوجته سارة، وكذلك النبي يوسف وجاء إخوته من فلسطين بسبب الجفاف، ويُشير القرآن الكريم إلى قصص الأنبياء، الذين ارتبطت أسماؤهم بسيناء لإبلاغ الرسالات.
بكل وسائل النضال دافعنا عن سيناء الصامدة، من الكفاح المسلح إلى حرب الاستنزاف، ثم حرب أكتوبر المجيدة عام 1973، وكذلك بالعمل السياسي والدبلوماسي، بدءًا بالمفاوضات الشاقة للفصل بين القوات عام 1974 وعام 1975، ثم مباحثات كامب ديفيد التي أفضت إلى إطار السلام في الشرق الأوسط «اتفاقيات كامب ديفيد» عام 1978، تلاها توقيع معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية عام 1979.
من الأمور الجوهرية في عيد تحرير سيناء، أن عودة الحقوق ستتحقق مهما مر عليها الزمن، ويستلزم ذلك صبرًا وحكمة من القيادة الموجودة، ولذلك ما بين حرب أكتوبر 1973، وعيد تحرير سيناء ما يقرب من 9 سنوات، كانت القيادات الموجودة حينها تسعى للسير في كل المسارات، وسلكت مسلك المفاوضات والسلام، والذي يعترف به العالم، بعد أن حققت النجاح الساحق في مسلك الحرب.
لم يكن تاريخ 25 أبريل 1982، هو التاريخ الأخير في عودة سيناء، بل واصلت الدولة المصرية عملية الاستعادة حتى شهر مارس 1989، وهو تاريخ عودة مدينة طابا، أي أن الدولة ظلت ما يقرب من 16 عامًا تدافع عن قضيتها بكل الوسائل، حتى تعود سيناء بالكامل، وتلك الوسائل استخدمت فيها الدولة كل أدواتها المتاحة، سواء في السلم أم الحرب.
وتتتابع الأيام، وتضرب مصر أمثلة أخرى للإرادة والصمود وعزيمة الرجال، حيث رفضت مصر كل الضغوط الأممية لتصفية القضية الفلسطينية، وتهجير أهل غزة قسريًا إلى سيناء، ولا تزال مواقفها مشهودة في دعم ومساندة حق الفلسطينيين في الحرية، ووطن آمن وحياة كريمة.
إذن، فاستعادة تلك الذكرى أمر يتجاوز مجرد اعتبارها احتفالًا سنويًا، أو مناسبة لاستعادة شموخ وقيمة تلك اللحظة، وبرغم أهمية ذلك في كل الأحوال، فإن الاحتفال بذكرى تحرير سيناء، يكتسب اليوم أهمية مضاعفة، ودلالات لا ينبغي أن تغيب عن كل ذي عقل وبصيرة، فتحرير سيناء كان دليلًا على قدرتنا على تحقيق أهدافنا، باستخدام كل ما أتيح لنا من أدوات، فحاربنا عندما كانت الحرب قدرًا محتومًا لتحرير الأرض وصون العرض، وفتحنا باب السلام من موقف القوة، عندما أدركنا أنه الطريق الأنسب لتحقيق الهدف.
وبذلك أرست الدولة المصرية في لحظة تحرير سيناء، ثوابت ومبادئ لا تزال راسخة في بنيان سياستها، أولها ضمان السيادة المصرية الكاملة على كل أراضيها، والتمسك برفض الأحلاف والتبعية، فخلت أرضها - ولا تزال - من أية قواعد أجنبية، وقادت - ولا تزال - سياسة متوازنة، تعتمد على صناعة الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي، في منطقة قدرها دائمًا، أن تكون في قلب العواصف والأنواء.