يجلس العم محمد على حامد بصل (75 عامًا) داخل ورشة بإحدى عمارات مركز دشنا القديمة، بين ألواح من الصفيح وأدوات لحام رافقته لأكثر من نصف قرن من الزمان، لتستشعر عند الزيارة وكأن جدران الورشة تهمس بأسرار من الماضي.
موضوعات مقترحة
من شروق الشمس حتى مغيبها، يُشعل الرجل السبعيني «جمرة» من النار داخل ورشته الصغيرة، ليطوع بلهيبها النحاس؛ صانعًا منها تحفًا، ويسرد على نارها حكايات من ألواح الصفيح، تنقذ حرفة مصرية تقف بين قوسين أو أدنى من الانقراض.
العم محمد بصل حارس مهنة الصفيح
فن تشكيل الصاج
«مهنتي علمتني أكون فنان» يحكي العم محمد بصل لـ«بوابة الأهرام» تفاصيل رحلته مع تشكيل الصاج، التي بدأت مع والده في قرية لم تكن تعرف الكهرباء أو البوتاجاز، قائلا: «كنت أصلح الفوانيس ووابير الجاز.. فحياتنا تدور حول النار والصفيح».
يحتفظ الرجل الكبير بـ«بابور جاز» من ماركة «ريموس» يتجاوز عمره الـ50 عامًا؛ باعتباره تذكار من زمن كان فيه «الوابور» أداة يهواها المصريون، قبل أن تندثر تحت حداثة التطوير.
العم محمد بصل حارس مهنة الصفيح
«بابور ريموس».. كيف وصلت الصناعة السويدية إلى القرى المصرية؟
وراء كل «بابور جاز» في مصر حكاية، بدأت عند رجل أعمال أرميني اسمه «أفاديس نارسيس تشيكجيان»؛ حيث استقدم العلامة السويدية «ريموس» إلى ميدان العتبة بالقاهرة أوائل القرن الماضي، لتصبح مركزًا إقليميًا لتوزيع مواقد الكيروسين في أفريقيا والشرق الأوسط.
اختفت تلك الحقبة تماما، إلا أن شاهدًا حيًا على ازدهار عصر الصفيح، لا يزال يرعاه العم محمد بصل في ورشته الصغيرة، ليروي بابور الرجل السبعيني حكايات عن زمن الصفيح.
العم محمد بصل حارس مهنة الصفيح
البلاستيك والكهرباء.. أعداء تهدد حرفة الصفيح
«كنا نصنع للطفل حصالة وللمرأة أبريق.. لكن النهاردة ما يطلبش منا غير أقماع الكنافة» بحسرة يتحدث العم محمد عن تحولات مهنته التي تضررت، مرة باختفاء الفوانيس الصاج، ومرة بعد تلاشي وابور الجاز مع انتشار البوتاجاز، ومرة ثالثة بعد اختفاء «الكولمب» الذي كان يعمل بالكيروسين، لكن الضربة الأقسى كانت مع صعود البلاستيك والألعاب المضيئة لتحل محل تحف الصفيح والنحاس .
العم محمد بصل حارس مهنة الصفيح
ورشة محمد بصل.. متحف حي لتراث مهدد بالانقراض
رغم آلام جسده التي خلفتها عمليات جراحية عديدة، يُصر العم محمد بصل على العمل في ورشته الجديدة، التي استأجرها منذ 15 عامًا.
تحولت الورشة الجديدة إلى ما يشبه المتحف المفتوح، التي تحفظ جدرانها برائحة الصفيح المحروق، وأدوات بدائية تتراقص برشاقة على لهيب جمرة نار؛ لتشكيل أقماع الحلويات التي يحتاجها السوق حتى الآن، تحرس إيقاعها يد خبيرة لمحمد بصل.
العم محمد بصل حارس مهنة الصفيح
«سأعمل حتى آخر نفس».. يختتم العم محمد حديثه مع «بوابة الأهرام» مؤكدًا تشبثه بحرفة قاربت على الاندثار، ورسالته على قلة عدد كلماتها، إلا أنها تحمل بين طياتها رسالة استغاثة، تطالب بتحرك عاجل من الجمعيات الأهلية والحرفيين لدعم المهنة القديمة، وتسويق منتجاتها وإحياء قيمتها التراثية؛ حيث يخفي العم محمد بصل وراء كل قطعة يشكلها ذاكرة حرفة لطالما أسعدت شعبًا.