لا أحد ينكر ما تتمتع به مصر من موقع جغرافي وإستراتيجي مهم، يجعلها مطمعًا للغزاة قديمًا منذ فجر التاريخ الإنساني، والجميع يعلم ذلك جيداً ويعلم ما تعرضت له مصر من حملات شرسة لغزوها والسيطرة على مواردها، والسيطرة على أراضيها الخصبة.
شهد بذلك الغرب قبل الشرق، ولنا في ما ذكره هيرودوت العبرة، فقد قال مصر هبة النيل، ليس هذا وحسب بل كانت مزاراً للساسة الغربيين من أمثال صولون المشرع اليوناني واضع قوانين إسبرطة. بل وسار على أراضيها فلاسفة عظام أمثال فيثاغورس، وسقراط بغية التعلم من حكمائها.
ومن ثم كان لزاماً علينا أن نتغنى بأمجادنا وبأمجاد معشوقتنا مصر، وما قدمه أجدادنا من نهضة حضارية أصبحنا الآن في تاريخنا المعاصر نسبح بحمد صنيعهم ونتحاكى فيما بيننا بهذه الحضارة التي فارقت السبعة آلاف عام، فلتفتخروا يا شعب مصر أنكم أبناء هذه الحضارة العملاقة.
لكن السؤال الذي يؤرق مضاجع كل محب حقيقي لهذا البلد، هل نحن نستحق هذا التشريف الإلهي أن جعلنا مصريين ونحمل الجنسية المصرية الأصيلة ويجري في عروقنا نهر النيل الخالد الذي هو نهر من أنهار الجنة؟!
ما الذي قدمناه لها؟ هل أدينا حقها علينا حق أدائه؟ هل وقفنا وقفة رجل واحد خلف قادتها قبل أن نطالب بحقوقنا عليها؟ هل أدينا واجبنا نحوها؟ هل اجتهدنا في أعمالنا وفي وظائفنا؟ هل أدى كل واحد منا دوره ومهامه التي كلف بها، أم إن كل واحد منا تغلبت عليه أنانيته، ويريد أن يأخذ فقط ولا يعطي، يريد أن يجمع ثروات كبيرة دون اكتراث، من أين أو بأي طريقة يجمعها، تلك ما تسمى بالأنانية المفرطة.
نعم لا ننكر أن لنا حقوقاً عليها ينبغي أن تؤديها لنا، لكن لماذا لا نتحلى بالصبر حتى ولو كان طويلاً، إلا أننا لابد أن نصبر صبراً جميلاً حتى تستقر أوضاعنا ولا نضيق ذرعاً بالقرارات التي تتخذها الدولة بغية الإصلاح.
فسياسة الدولة الآن، الإحلال والتجديد، لا الترقيع، خلاف السياسات التي كنا نظن أنها إصلاحية، لكنها ليست إصلاحات، فالإصلاح الحقيقي يبدأ من ضبط البنية التحتية للدولة من أجل النهوض بالمرافق من مواصلات وصرف صحي وكهرباء وتعليم وثقافة وحزمات إصلاحات اقتصادية.
ومن ثم وجب الوقوف قلباً وقالباً جنباً إلى جنب مع قياداتنا ضد من تسول له نفسه التربص بوطننا؛ سواء من الداخل أو من الخارج؛ من الداخل، ضرورة ملحة أن نتصدى لحملات التشويه المسعورة التي تقودها لجان إلكترونية لا هم لها إلا إثارة الفتن من أفراد الشعب، مستغلين ضعاف النفوس المأجورين العملاء الذين تم شراؤهم بالمال السياسي القذر من جماعات إرهابية هدفها التثبيط من الهمم وتحطيم معنويات الناس.
أما خارجياً، فالضرب تحت الحزام على أشده سواء من القنوات (قنوات الفتنة)، التي تنفث سمومها من خارج البلاد عبر شارة بث عميلة مأجورة، تنفث سمومها ليلاً ونهاراً، بغيتها النيل من وحدة الشعب وتفتيته وإثارة الفوضى في البلاد.
ليس هذا وحسب، بل عن طريق بعض الدول التي لا تبغي الخير لمصر، وتسعى جاهدة عبر عملاء لتقزيم حجم الدور المصري العملاق، لا أقول في الملف الفلسطيني فحسب، بل وفي كل ما يخص أمتنا العربية والتقليل من شأن مصر؛ سواء دورها في فلسطين أو في السودان، أو في ليبيا وغيرها من البلدان العربية والإفريقية.
لكن السؤال الذي دوماً ما يطرح نفسه لماذا يفعلون ذلك؟ هل هو الحقد الدفين على مصر وعلى شعبها؟ هل هي الغيرة من قوة جيشها وترابط وتماسك شعبها؟ هل لأن جميع دول العالم تتكلم عنها وتذكرها بالخير؟ قد يكون هذا هو السبب الرئيس.
لكن أما سألوا أنفسهم أننا نحن مصر ذراعنا مفتوحة للجميع، أما سألوا أنفسهم من الذي تصدى وتصدر المشهد عندما جارت دولة عربية على أختها، حرب الخليج الأولى والثانية؟ حرب العراق على الكويت.
ألا يتذكر الإخوة العرب عبارة الرئيس القائد، عندما قال سنستخدم القوة الغاشمة ضد من تسول له نفسه التحرش ببلد عربي؟ لابد أن يعلم الجميع أن مصر دوماً ما تفتح ذراعها للجميع، وهي تمهل وتمهل، لكنها لا تهمل، فكل من يتربص بنا وبأمننا القومي حركاتهم مرصودة جميعاً، فلا يظنون أنهم سيفلتون بألاعيبهم الشيطانية.
إن واقعنا المصري المعاصر تغير بنسب كبيرة وملحوظة إلى الأفضل والأحسن، فحالنا الآن أفضل من ذي قبل، وقد يجابهني واحد بسؤال قائلاً، أي تحسن والأسعار في ارتفاع، نرد ونقول إن موجات الغلاء هذه ليست في مصر وحدها، فلا تجعلوا هدفكم المأكل والمشرب فقط؛ بل هناك أمن قومي، وهناك ترسانة أسلحة يحسب لها الجميع ألف حساب.
إن التحسن الملموس قد لا نستشعره الآن، لكن هو تحسن حقيقي لا مجرد مسكنات تعطى لتهدئة آلام الناس، نعم لدينا مشكلات ولا أحد ينكر ذلك، مشكلات في التعليم، في الصحة، في الثقافة، في الاقتصاد، نعم هي مشكلات متراكمة وفي طريقها للحل إن شاء الله.
نعم ستحل بفضل جهود المخلصين الذين لا يألون جهداً مواصلين الليل بالنهار من أجل رفعة الوطن وتحقيق نهضته المنشودة وتنميته المستدامة، شريطة أن ينبغي الضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه من الفسدة الذين يعيثون في أرض البلاد فساداً ضالين ومضللين ليس لهم هم اللهم إلا تضخيم ثرواتهم على حساب البسطاء الكادحين من أبناء الشعب.
نعم إن ما نأمل إليه ونتطلع إليه لبلدنا أن تحقق تنمية مستدامة تجعلها تتبوأ مكانتها بين دول العالم كما كانت، وسيحدث ذلك، لا من خلال الشعارات والهتافات والزمر والطبل وإنما من خلال الاستفادة من الخبراء الحقيقيين في كافة المجالات (إعطاء العيش لخبازه).
نبحث عن خبراء الاقتصاد، خبراء تربويين يتولون حقائب التعليم، أدباء ومثقفين حقيقيين يتولون الإشراف على الثقافة والآداب والفنون، بعيداً عن الوساطة والمحسوبية، ابحثوا عن هؤلاء فمصر ولادة ومعينها لا ينضب أبداً.
حتى وإن كانوا خارج البلاد، فادعوهم ليعودوا إلى أحضان الوطن، فهذا واجب قومي وسوف يلبونه؛ بذلك سيتحقق مرادنا، وستتحقق نهضتنا المرجوة.
أستاذ الفلسفة بآداب حلوان