أطفال غزة.. عارٌ في جبين العالم

21-4-2025 | 17:00

هل تعرفون كيف يبدو القهر في غزة؟!

إنه ليس فقط صوت الصواريخ وهي تمزّق الليل، ولا رائحة البارود التي تقتحم أنفاس الصباح... 
 
القهر الحقيقي أن ترى فلذة كبدك، قطعة من قلبك، ممددة كغصنٍ نائم تحت ترابٍ بارد،  وجهه البريء ساكن كأنّه نام بعد لعبٍ طويل، لكنّ هذا النوم خالٍ من الحلم،  خالٍ من الرجوع، خالٍ من حضنٍ كان من المفترض أن يردّ له الحياة كلّ مساء.

في خانيونس اليوم، رحل طفلٌ لم يُكمل العاشرة. 
 
طفلٌ لم يحلم بالكثير، فقط بلقمة تسدّ رمق الجوع، وبحضنٍ لا يقطعه صوت الغارة.  

لكنّ الجوع أصرّ أن يكون آخر ما أحسّ به، والقصف أصرّ أن يقطفه قبل أن يعرف طعم الطفولة.

حين رآه والده مسجّى على النعش، ركض إليه لا ليودّعه، بل كمن يحاول أن يسرق لحظة من يد القدر، كمن يريد أن يوقظ الزمن بدمعة، ضمّه إلى صدره كأنّ الحياة قد تعود إن ضمّها بقوة، قبّله، شمّه، وبكى بكاءً لم يشهده الحزن من قبل، وقال بصوتٍ مهزوم: "سامحني يا بابا، شهور وأنا مش قادر أطعمك، رحت عند ربك وإنت جعان، بس هناك، هناك يا روحي ما في جوع ولا قهر، آهٍ آه يا وطن...  

كم من الأطفال ستقدّمهم قرابين قبل أن تشبع نار الحرب؟! وكم من أبٍ سيبقى يعتذر لأطفاله الذين لن يسمعوه بعد الآن؟! وحسبنا الله... في هذا الوجع الذي لا يُحتمل، وفيهم… في من زرعوا الموت في بطونٍ لم تعرف الشبع، وفي أحلامٍ لم تجد الوقت كي تنضج، تلك كلمات كتبتها الصحفية الفلسطينية المقيمة في غزة "يافا أبو عكار" ليست فقط صحفية من غزة، بل شاهدة على القيامة اليومية من تحت الركام، وصوتٌ حيّ في مدينة يُراد لها أن تُطفأ، فلا تبقى فيها ذاكرة ولا شهقة حياة. كلماتها، وهي تكتب من بين أنقاض الطفولة وصمت المقابر الجديدة، ليست نصًا صحفيًا باردًا، بل نداءٌ مكتوب بدم الناجين، بأصابع ترتجف على وقع الغارات، وعيون رأت ما لا يُرى ولا يُنسى.

في زمنٍ اختلطت فيه الحقيقة بالدخان، وانهارت المعايير على أعتاب الصمت الدولي، تقول يافا ما لا يجرؤ كثيرون على مواجهته:  
أنّ ما يحدث ليس حربًا، بل قرارٌ ممنهج، إبادة بصيغة يومية، وتطهير عرقي على مهل، لا يحتاج أدلّة بقدر ما يحتاج ضميرًا حيًّا ينظر ويشهد.

إنها ليست فقط مأساة غزة، بل مأساة وطن يُقصَف ليُمحى، ويُجوَّع ليُركع، وتُقتَل أطفاله ليُربّى الجيل على الصمت أو الرحيل.
  
ما تكتبه يافا هو إرث الكلمة حين تصير سلاحًا في وجه المجزرة،  وصرخة من قلب وطنٍ محاصر، تقول للعالم:  
نحن هنا، نكتب بين الموت والموت، لأن الحياة وحدها لم تعد تكفي.

نعم على مدار الساعات المتصلة والدقائق لا يتوقف قصف المدنيين الأبرياء ونسف المباني المهدمة من قبل والاقتحام والاعتقال والحرق والقتل المباشر بالأسلحة الخفيفة والثقيلة، في حرب من طرف واحد أمام طرف منتهَك الحقوق ومنزوع السلاح، حرب ومجزرة تاريخية زادت على الخمسمائة يومٍ ولا يزال أوارها مشتعلا أمام حكومات العالم وخصوصًا الغرب منها، التي أغمضت أعينها حتى عن انتفاضات شعوبها المطالبة بوقف هذه الانتهاكات الصارخة التي أعادت العالم إلى القرون الأولى وقانون الغابة. 

ولعلي أتذكر أمام استمرار هذا الظلم التاريخي، ما قاله النائب الأيرلندي مات كارثي في كلمة مشهودة مدافعًا عن فلسطين التي يحتل الكيان أراضيها، وينتهك الآن كل معنى للحياة فيها، بحجة السابع من أكتوبر، والذي قال عنه بعض القادة الغربيين لتبرير الحرب الوحشية، بأنه انتهاك للقانون الدولي، حتى تساءل مات كارثي عما قبل هذا التاريخ من احتلال وبناء المستوطنات غير الشرعية، والتوسع فيها، وفرض نظام عنصري يقيد حركة الفلسطينيين، واستخدام الأسلحة المحرمة، والقتل اليومي بدم بارد أو بلا دماء، وهو ما ذكره أيضًا النائب في البرلمان الفيدرالي البلجيكي، نبيل بوكيلي، حين رفع علم فلسطين في وجه سفيرة الكيان المحتل، واصفًا لها بالوقاحة، خلال جلسة عامة للبرلمان، احتجاجًا على الجرائم والإبادة وقال في وجهها أنتم الإرهابيون الحقيقيون، أنتم الذين تحتلون فلسطين، منذ 76 عامًا، ومنذ ذلك الوقت لم يكن هنا 7 أكتوبر، انتهكتم جميع قرارات الأمم المتحدة، لم تحترموا أي قانون دولي، وأطالب الشعب الفلسطيني بأن يغفر لنا، لأننا حتى لم نفرض أي عقوبات عليكم، تأتين هنا لتدافعي عن دولتكم اللصة التي تمارس الإرهاب ضد شعب أعزل، وعرض مجموعة من الصور إحداها لمخيم جباليا الذي قصفه جيش الاحتلال، فاشتعلت النيران في النازحين أطفالا وشبابا ونساء وحُرقوا أحياء، وتناثرت أشلاؤهم المحترقة، والقصف المتعمد للمستشفيات وقتل المدنيين المرضى، واستهداف الأطفال كأكبر شريحة عليها التركيز في هذه الحرب غير العادلة، ففي غضون أشهر متواصلة استهدف الاحتلال بالقتل المباشر والقصف عددًا من الأطفال يعادل ويفوق عدد الأطفال الذين قُتلوا في جميع الحروب والنزاعات حول العالم.

لكنهم نواب وشعوب ينتفضون ضد الحرب ويرفضونها، فما بال الحكومات، وحتى هذه الساعة تعمل قوات الاحتلال الإسرائيلي بطريقتها وطريقة حكومتها الحيوانية على تنفيذ مخطط الشيطان لاقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، في شتى أنحاء غزة التي أصبحت مدينة من الدمار والأنقاض والأشلاء والجثث الملقاة في عرض الطريق وغيرها تحت الأنقاض في خان يونس ودير البلح والمواصي ومخيم الشاطئ والنصيرات ورفح، وغيرها وغيرها من المدن والأحياء التي تسوّت أغلبها بالأرض، وسط فرض حصار مطبق على المدنيين الذين إذا نجوا من الاستهداف نهشهم الجوع والعطش والمرض، فضلا عن الانتهاكات المتواصلة بالضفة الغربية، لترتفع حصيلة الشهداء نتيجة هذا العدوان الإسرائيلي إلى أكثر من خمسين ألف شهيد، وأكثر من مئة ألف مصاب، وأعلنت الأونروا "وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" أن الحصار الخانق الذي تفرضه سلطات الاحتلال على القطاع المنكوب منذ نحو سبعة أسابيع، هو الأشد منذ بدء العدوان في السابع من أكتوبر 2023. 

كل ذلك ويخرج وزير الاحتلال المتطرف ومجرم الحرب ويقول في فيديو مسجل، إن إسرائيل "ليس لديها خيار سوى مواصلة القتال من أجل وجودنا حتى النصر"، متحججًا بأن المقاومة ترفض مقترحاتهم، لوقف إطلاق النار كسبب لمواصلة قصف غزة"، هذا المقترح الذي يدعو إلى نزع سلاح غزة ولم يتضمن فكرة إنهاء الحرب، في الوقت الذي أبدت فيه حماس مرونة كبيرة لتمرير الاتفاق السابق الذي انتهكته إسرائيل، لمحاولة تنفيذ خطتها التي أعلنها ترامب بوضوح وتواطؤ في تهجير الفلسطينيين، وعلى الرغم من تراجعه الظاهري غير أنه يبارك مواصلة العمليات القذرة في أنحاء القطاع، بل إن الإدارة الأمريكية تواصل تعزيز ودعم الاحتلال بالأسلحة الفتاكة، وخلال الأيام الماضية حطت طائرات نقل أمريكية محملة بأسلحة جمدتها الإدارة السابقة، ورفعت عنها القيود الإدارة الحالية، تحمل قنابل ثقيلة من طراز "إم كي 84"، وذخائر، وصواريخ اعتراضية لبطاريات "ثاد" الأمريكية، وقالت هيئة البث الإسرائيلية، إن هذه الأسلحة مخصصة لمواصلة القتال في قطاع غزة، وللاستعداد لهجوم محتمل على إيران بالاشتراك مع الولايات المتحدة في حال فشلت المفاوضات النووية، وللتجهيز لـ"هجمات مستقبلية"، كما أنه من المقرر أن تنقل واشنطن شحنات كبيرة أخرى من الأسلحة خلال مايو المقبل للاحتلال، لتعويض مخزونات استخدمتها خلال الحرب.

أمام هذه الأوضاع يواجه الموقف المصري تحديات كبيرة في سعي الدولة المصرية إلى وقف جميع الانتهاكات، وإعادة الحقوق لأبناء الشعب الفلسطيني وعدم تصفية القضية الفلسطينية، والتصدي لأي تهديدات للأمن القومي المصري، في الوقت الذي يتحرك فيه مغرضون إلى إفشال هذه المساعي والجهود التي لم تتوقف، ولا يزال الشراذم عبر منافذهم وقنواتهم يجعلون من ريادة مصر شغلهم الشاغل، دون الالتفات إلى المنطقة التي تشتعل يوما بعد يوم، وتداول هؤلاء أن القاهرة قد طلبت من المقاومة نزع سلاحها مقابل وقف الحرب، وهو ما تم نفيه شكلاً وموضوعًا، فالقاهرة لم ولن تطلب من فصائل المقاومة الفلسطينية تسليم سلاحها، وما تم تقديمه مقترح إسرائيلي تم نقله إلى حركة حماس عبر الوسطاء. 

محاولات خبيثة لعرقلة جهود السلام تطلعًا لأهداف دنيئة، في وقت الشد، وفي وقت نتطلع فيه إلى تحرك حثيث ومسئول من المجتمع الدولي الذي أُصيب بالعجز والبلادة وموت الضمير أمام أكبر مجزرة تشهدها الإنسانية، يقتل فيها كل يوم أكثر من ثلاثين طفلاً، حتى اقترب عدد الأطفال الذين ذهبوا هباء إزاء هذه الحرب الغاشمة من العشرين ألفًا.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة