فن "تسويق الفتاوى الشاذة"!!

21-4-2025 | 14:11

من عجائب هذا الزمان، أن كل يوم نفاجأ بفتوى تخالف ثوابت الدين، وتطعن في مسلماته، وتهدم معتقدات قامت وأسست على العقل والمنطق والفهم الدقيق لصحيح الدين والشرع. 

ولعلنا نتذكر فتاوى "إباحة إرضاع الكبير، وعدم شرعية الحجاب، وإباحة نكاح المتوفاة، ومعاشرة البهائم، وتحريم وضع الأموال في البنوك، وجواز بيع الآثار، واعتبار تولي المرأة مناصب قيادية إثمًا.. وتحريم تحية العلم.. إلخ من الفتاوى الشاذة التي كان لها عظيم الخطر والضرر على الفرد والمجتمع. 

ولأن الفتاوى في الإسلام، تكتسب أهمية بالغة لشرفها العظيم، ونفعها العميم، ولكونها المنصب الذي تولاه الله عز وجل بنفسه، وكفى هذا المنصب شرفًا وجلالة أن يتولاه الله تعالى بنفسه "وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ ۖ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ".. وقال أيضًا: "يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ"، فكان الرسول الكريم محمد "صلى الله عليه وسلم"، يفتي عن الله بوحيه المبين، وبتأكيد من القرآن دستور الأمة "قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ"، فكانت فتاويه "صلى الله عليه وسلم" جوامع الأحكام، ومشتملة على فصل الخطاب، ثم خلفه في منصب الإفتاء كوكبة من صحابته الكرام، ومن بعدهم "التابعون"، وأتباع التابعين، وكثير من الأئمة المجتهدين، والعلماء العاملين، فأفتوا في دين الله تعالى بما آتاهم الله من علم غزير، وقلب مستنير، ورقابة لله العليم الخبير، فأسدوا إلى الأمة خدمات جليلة كان لها أثر في نشر العلم، وإصلاح العمل. 

الإمام مالك رحمه الله قال: «ما أفتيتُ حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك»، وروي عن غيره قريبًا مما قال؛ لذلك كان لفتاويهم هيبة، ولمذاهبهم قوة علمية يصعب توهينها. 

ومن بعدهم تواجد عدد كبير من رجال الدين الذين منحوا أنفسهم حق إصدار الفتاوى، بعد ذلك، حتى وجدنا بعض الشيوخ الذين رافقوا الإسلام منذ ظهور الممالك والإمارات الإسلامية الأولى، حين بحث بعض المسئولين عن رجال دين يضفون شرعية على سلطتهم، ويسخرون معلوماتهم الدينية لخدمتهم عبر ليّ أعناق النصوص لتناسب مصالحهم!!

ولكن العقود الأخيرة شهدت قيام مئات من رجال الدين بإصدار الكثير من الفتاوى، منها ما كان يدعو للقتل، وأشهرها فتوى الخميني بقتل الكاتب سلمان رشدي، وعلى طريقتها صدرت عشرات الفتاوى من رجال دين سنّة بإهدار دم عدد من الشخصيات العامة في مختلف دول العالم؛ لأنهم رأوا أنهم هاجموا الدين الإسلامي في كتاب، أو مقال، أو تصريح، أو رسوم. وقد نجم عن هذه الفتاوى عشرات العمليات الإرهابية التي أدت لمقتل الكثيرين، ولم تكن فتاوى القتل هذه سوى جزءِ بسيط من فتاوى التكفير التي انتشرت بشكل واسع خلال العقود القليلة الماضية!! 

وظل الوضع هكذا حتى وصلنا إلى حالة "السيولة وفوضى الإفتاء الفضائي، والجري وراء إعلام "الترند" الذي يعد أهم الأسباب التي أدت إلى فوضى الإفتاء، وعدم تحقيق التوازن بين النصوص الشرعية ومتغيرات الواقع. 

إن مشكلتنا مع الفتاوى في مجتمعنا الإسلامي، أنها لا تقتصر على علاقة الإنسان بخالقه، كما هو الحال عند أغلب الديانات الأخرى، بل تتعدى ذلك إلى كافة النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية، وهو ما استغله بعض الشيوخ وقاموا بتسويق الشاذ منها لتحقيق أهدافهم وأهداف من يمولهم ويساندهم. 

كما أن الأصل في الفتوى أنها غير ملزمة "قضاءً"، ويقتصر إلزامها "دينيًا" إذا قامت الأدلة الواضحة على صحتها، وقد عرف مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي "الفتوى"، بأنها "بيان الحكم الشرعي عند السؤال عنه"، أو "بيان حكم لتصحيح أوضاع الناس وتصرفاتهم". 

ولأن علماء الدين أفسحوا من صلاحياتهم في الفتوى لتشمل كل مناحي الحياة، باعتبار الإسلام دينًا صالحًا لكل زمان ومكان، وباعتبار الشريعة الإسلامية كاملة لا تقبل التعديل ولا التبديل مهما طال الزمان، إلا أننا فوجئنا بكثير من الآراء التي تشكك في تلك الفتاوى، وأبرزها ما يتعلق بميراث الرجل والمرأة، ومساواة المرأة بالرجل في الميراث!! 

فبعد ما يقرب من 7 سنوات من كلام البعض في مسألة مساواة الرجل بالمرأة في الميراث، خرج علينا بعضهم مجددًا، ليؤكدوا أن المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة صحيح فقهيًا، ولا يتعارض مع الشريعة، وأن الميراث "مسألة حقوق" لا "مسألة واجبات" مثل الصلاة والصوم!! 

وقالوا: إن مسألة الحقوق يكون للمسلمين الحق في التعامل بها، وأن الفتوى تتغير بتغير الزمن، مؤكدين أننا سنصل إلى ما وصلت إليه تونس بعد عشرين عامًا من الآن. 

وقد أصدر مركز الأزهر للفتوى الإلكترونية وقتها تقريرًا رد فيه على ما أورده بعض الشيوخ بهذا الشأن، مشيرين إلى أن الشريعة الإسلامية تميزت بصلاحيتها لكل زمان ومكان، ومراعاتها لجميع أحوال الناس على تنوعهم واختلافهم، وأن هناك فارقًا بين "العدالة" و"المساواة"...، فالعدل لا يقتضي التسوية، لأن العدل هو وضع الشيء في موضعه مع مراعاة الحال. 

وبين بيان الأزهر فلسفة الميراث في الإسلام، وأن الشريعة ضمنت حقَّ المرأة في الميراث وحرمت أكله بالباطل، وأقرت مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، وأن الإسلام قد أقر المساواة، ولم يقر التساوي المطلق بين الذكر والأنثى في الصفات الخلقية والفطرة الربانية والوظائف التكليفية، وأن الدعوةَ إلى جعل المرأة كالرجل في الأمور التي فرقت فيها الشريعة بينهما طعنٌ في حكمة التشريع، وإنكارٌ لهوية الإسلام، وتَعَدٍّ على النظام الاجتماعي العام". 

إن مما ابتليت به الأمة في هذا العصر، هو كثرة "المتعالمين"، خاملي الذكر وقليلي البضاعة العلمية، الذين تستعين بهم قنوات الإثارة الإعلامية، وتسوق إلى الجماهير بضاعتهم الشاذة التي تثير البلبلة، وتضرب ثوابت العقيدة والمجتمع في مقتل، ولابد للجهات المعنية من وقفة رادعة.. فهل نحن فاعلون؟!

كلمات البحث