إن غاية الإسلام هي تربية الإنسان المؤمن على حب الله، وتربيته أيضًا على حب ونفع الآخرين، كما يقوم الإسلام على تنمية مفهوم العلاقات الإنسانية بين البشر، كذلك تنظيم العلاقات الاجتماعية في المجتمع على هدى من الرحمة والحكمة والشفقة والعدالة والمساواة والتسامح والإخاء واحترام الغير، وترسيخ تلك المبادئ في نفوس معتنقيه، وتلك هي الغاية التي تمثل القوة المحركة للحضارة الإنسانية، فترقى الحياة وتسمو القيم ويظهر ما يسمى بالتطور والتقدم والتكامل والتكافل الإنساني بين أفراد المجتمع بغض النظر عن الجنس أو اللون أو الدين.
موضوعات مقترحة
وكان سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) اسمه زينة الأسماء، ومحبته بلسم الأتقياء وهو خاتم الرسل والأنبياء، جاء برسالة الإسلام عالمية غير محدودة بعصر ولا مَصْر ولا جيل فخاطبت كل الأمم والشعوب وكل الأجناس وكل الطبقات، كما قال الله ـ عز وجل ـ في كتابه العزيز: (وَمَاأَرْسَلْنَاكَ إِلاَّرَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) وكما قال:"بُعثت إلى الناس كافة".
والحضارة الإسلامية – التي ولدت من رحم الإسلام ونبعت من روحه – هي حضارة إنسانية، تهدف في المقام الأول إلى خير الإنسان واحترامه وسعادته، إلى جانب أنها حضارة قيم وأخلاق وفضائل وسمو روحي وخُلقي واجتماعي وقد حملت تلك الحضارة الإسلامية – ومازالت تحمل – معاني الحب والخير لسعادة الإنسانية جمعاء، كما تحمل بين طياتها كل معاني الرحمة والشفقة والقيم الفاضلة والأخلاق الإسلامية النبيلة.
والمتأمل في التاريخ الإسلامي على مر العصور وما انتهجه من نهج في تعامله مع جميع الفئات من البشر سواء في الماضي أو الحاضر بمختلف توجهاتها الفكرية والاجتماعية والسياسية وغيرها، ليدرك تمام الإدراك أنه منهج يتسم بروح التسامح والسلام، والمودة والوئام، ذلك أن الإسلام في تعامله مع الآخرين يراعي الجانب الإنساني البشري.
أولاً: المعنى اللغوي والاصطلاحي للتسامح والأخوة في الإسلام:
المعنى اللغوي والاصطلاحي للتسامح
التسامح في اللغة: من السماحة من باب سمح سماحًا وسمحًا وسماحة وسمح العود أي استوى، وهي بمعنى البذل في العُسر واليُسر عن كرم وسخاء، ويقال سمح له بحاجة أي يسرها له، وسامحه بمعنى عفا عنه، ويقال في الدعاء سامحك الله، ويقال تسامح في كذا بمعنى تساهل في كذا، والمسامحة تعني المساهلة وتسامحوا بمعنى تساهلوا، وسمح وتسامح بمعنى جعله لينًا ويسيرًا وسهلاً، والمسمح أي الكثير الجود والكرم، فالتسامح يعني التساهل، وقال شريعة سمحة أي فيها يسر وسهولة.
والتسامح في الاصطلاح: يعني الاحترام المتبادل والاعتراف بحقوق الغير من كافة الجوانب السياسية والدينية والفكرية وغيرها، واحترام رأيه وفكره، وعدم احتقار شخصيته أو إجحاف حق من حقوقه المشروعة، فالتسامح والحوار الجيد المثمر ليس وسيلة للتفوق على المنافسين، وليس وسيلة لإفحام المخالفين والمخاصمين، إنه وسيلة عظيمة للتعلم والفهم وتحسين الرؤية وقد روى عن حاتم الأصم (رحمه الله) من قوله: معي ثلاث خصال أظهر بها على خصمي؛ أي أغلب بها خصمي، قالوا وما هي ؟ قال: أفرح إذا أصاب خصمي وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ نفسي من أن أتجاهل عليه؛ أي أضبط نفسي من أن أسئ الأدب أثناء الحوار.
ويبدو لنا أن المعنى اللغوي والاصطلاحي للتسامح مرادهما واحد وهو التساهل بحق في معاملة الغير وتقرير مبدأ الحرية لكل فرد من أفراد الجنس البشري فيما يسلكه من منهج في حياته أو معتقد يؤمن به في فكره وعقله، لأن روح التسامح وفضائل حُسن المعاملة هما أقدس قواعد الرحمة والإحسان عند الشعوب والأمم.
وإذا تتبعنا منهج الإسلام نجده يتسم بروح التسامح وحُسن العشرة وبُعث النبي رحمةً للإنسانية، وسعادةً للبشرية، وهدايةً لكل العالمين، ولذا كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) هو القدوة الأولى في مجال التسامح في الإسلام، وهو الذي علم البشرية معنى التسامح والأخوة في الإسلام، ونقل الجميع عن الإسلام التسامح وفضائل حسن المعاملة.
المعنى اللغوي والاصطلاحي للأخوة في الإسلام
الأخوة في اللغة: تُعني المؤاخاة، وأخا يُعني أخوة وإخاوة، أي اتخذ أخًا له، وآخى فلانًا مؤاخاة وإخاء، أي اتخذه أخًا وتآخيًا أصبحا كالأخوين، ويقال السماحة والسماح تآخ، والأخ من جمعك وإياه صُلب من الرضاع أو من يشارك في الرضاعة، والأخ بمعنى الصديق وفي المثل "إن أخاك من آساك" "ورُب أخ لك لم تلده أُمك"، وأخو الشيء أي صاحبه وملازمه.
وقد جاء الإسلام ليوثق الروابط بين الجماعة الإسلامية برباط الأخوة والتسامح التي تزول معها جميع الفوارق من نسب عريق، أو مال وفير، أو جاه عريض، إلى غير ذلك مما درج عليه الناس على اعتباره من المميزات والفوارق بين الناس.
ظهرت النظرية السياسية الإسلامية منذ عصر النبوة فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مؤسسًا لدولة الإسلام الأولى في المدينة، تلك الدولة التي وضع لها القواعد الأساسية والتي نجحت في أن تصهر كل الخلافات بين العناصر البشرية المختلفة المكونة للمجتمع المدني، وأن تذيب كل الفوارق بين العناصر حيث سادت الأخوة وعم التراحم، وانبثق مجتمع جديد دفعه الإيمان بالإسلام إلى حماية المفاهيم والقيم الجديدة التي نزل بها الروح الأمين على رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
ولقد عمل الإسلام كدين وعقيدة سمحة منذ وجوده على ظهر الأرض على تأصيل مبدأ الأخوة والتسامح بين رعاياه كافة والعيش في جو من الألفة والتراحم والتكامل والمحبة وظهرت هذه القواعد والمعاني والمفاهيم جلية في وثيقة المدينة أحد دعائم الرسول (صلى الله عليه وسلم) في إرساء قواعد البناء الكامل للمجتمع الإسلامي في المدينة المنورة، ثم انتشر المسلمون في الأمصار والولايات الإسلامية وأصبحوا منارات ومشاعل حضارة يحملون أمانة تبليغ الرسالة المحمدية بكافة مقوماتها وسلوكياتها وأخلاقها وعاداتها وتقاليدها، ويحملون منهج يتسم بروح التسامح والسلام والقيم النبيلة للإنسانية جمعاء.
ثانيًا: وثيقة المدينة (الصحيفة)
ومن خلال القراءة التاريخية لنص الوثيقة يتبين تبلور النظم الأساسية والتزاماتها في الدستور الدائم الذي وضعه الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) لإقرار العلاقات، ليس بين جماعة المؤمنين بعضهم البعض، ولكن بينهم وبين جيرانهم من أهل المدينة أيضًا، وصار هذا الدستور الذي اشتهر باسم "الصحيفة أو الوثيقة" أساس الدولة الإسلامية الوليدة، وأهم ينبوع من ينابيع النظم الإسلامية، التي صاحبت تطور العالم الإسلامي واتساعه على مر العصور، وأقر هذا الدستور النظم والمبادئ العامة.
ثالثًا: قراءة تحليلية لمظاهر الإخاء والتسامح في وثيقة المدينة
مظاهر الإخاء من واقع الوثيقة
لم يكن النبي (صلى الله عليه وسلم) مبشرًا بدين فحسب، بل كان مؤسسًا لسياسة غيرت مجرى التاريخ، وجاء (صلى الله عليه وسلم) بتشريعات روحية واجتماعية طُبقت في المجتمع الإسلامي وجسدت المناخ الروحي للإسلام، وكان(صلى الله عليه وسلم) قائدًا وامتلأ قلبه بالرحمة والرأفة، وتعامل مع الجميع على قدم المساواة، وفي نفس الوقت كان (صلى الله عليه وسلم) إنسانًا فوق مستوى البشر.
وفي مجال التسامح والإخاء الإنساني الذي بدأ النبي (صلى الله عليه وسلم) يغرسه في نفوس أصحابه وفي قلوب الأمة الإسلامية ما ورد في الوثيقة من جعل المسلمين جميعًا، مهاجريهم وأنصارهم، ومن تبعهم ممن لحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة من دون الناس، وهذا ما دعى أحد الباحثين أن يقول "الحب في الأمة بناء والبغض فناء، الحب نور والكره ظلام، الحب عمار والحقد دمار، الحب يحرك الجبال الرواسي والبغض يوقف السير والسيل، الحب يحيى الموات والكره يميت الأحياء، الحب طاقة قاهرة، خلاقة قادرة، الحب أوضح من الشمس، وأجلى من النور، وأسرع من الضوء، وأقوى من الذَرة، الحب يصنع المعجزات، الحب يحيل الشيطان إلى ملاك، والمجرم إلى قديس، والوحش إلى حمل وديع، والخامل البليد إلى شعلة من النشاط والحيوية، الحب أقدس عاطفة، وأنبل إحساس، وأطهر شعور، وأسمى غاية".
كما أن الأحاديث القدسية والسيرة النبوية الشريفة –التي طبقها النبي (صلى الله عليه وسلم) بين أصحابه وأتباعه – تدعو للسماحة والحب والتآخي بين كافة البشر. فقد جاء في الحديث القدسي عن رب العزة إذ يقول يوم القيامة: "أين المتحابون من أجلي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي"، ويقول سبحانه وتعالى: "وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين والمتزاورين في، والمتأدبين في"، كما زكى النبي (صلى الله عليه وسلم) مبدأ الأخوة في الإسلام والتسامح وجعل منها راية ترفرف في قلوب الناس كافة، فيقول: "عليكم بإخوان الصدق فإنهم زينة في الرخاء وعصمة عند البلاء"، وقوله: "والمرء كثير بأخيه ولا خير في صحبة من لا يرى لك من الحق مثل ما ترى له".
ومن واقع الدراسة التاريخية التحليلية للوثيقة يتبين أن النبي (صلى الله عليه وسلم) يرثي قواعد التسامح والإخاء الإنساني بين جماعة المسلمين المهاجرين والأنصار، وهذا التنظيم الذي أقره الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) بجماعة المؤمنين في المدينة صار بمثابة الينابيع الدافقة التي استمد منها العالم الإسلامي ما اتسمت به نظمه من أصالة وقدوة، وفي نفس الوقت ساعدت على التأقلم مع متطلبات التطور والنمو، إذ استهدف الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) من تلك التنظيمات الواردة في بنود الوثيقة جعل جماعة المؤمنين نواة طيبة لمجتمع جديد، رسالته الجهاد بحق وفهم ووعي وإدراك في سبيل نشر الإسلام وإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
أقرت الوثيقة نظام الدولة والقانون بدلاً من القبيلة والعرف، إذ هاجر الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة ومعه تجربة عملية عما ساد مكة من نظام قبلي فاسد، وعصبية عمياء حالت بين القبائل وبين الوحدة والتعاون، لذا اجتهد (صلى الله عليه وسلم) على أن يحول بين هذه الآفات القبلية وبين امتدادها إلى جماعته الجديدة في المدينة، وهي مازالت في فجر حياتها ومن ثم اتخذ الدين والعقيدة أساسًا لجمع المسلمين من مهاجري وأنصار في دولة يرى أفرادها في دينهم الجديد رباطًا وثيق العرى وأشد قوة من الروابط القبيلة، وأن الإسلام لا يعترف بأية رابطة تقوم على العصبية أو العنصرية القومية أو الجنسية، وإنما الرابطة الوحيدة التي أقرها الإسلام وجعل لها منزلة وأقام لها وزنًا هي رابطة الأخوة الإنسانية، "هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ، فَلَحِقَ بِهِمْ، وَجَاهَدَ مَعَهُمْ، إنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ".
وبهذا تكون الوثيقة قد ألغت الحدود والفواصل القبيلة واندمج المسلمون على اختلاف قبائلهم ومن تبعهم من أهل يثرب ممن احتفظوا بدينهم في هذه الجماعة التي ترتبط فيما بينها برابطة الإسلام فهم يتكافلون فيما بينهم، وهم ينصرون المظلوم على الظالم، وهم يَرعُون حقوق القرابة والصحبة والجوار، ويتضح ذلك في قوله ـ عز وجل ـ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوابَيْنَأَخَوَيْكُمْ).
وهكذا ألغت الروابط العنصرية والقبيلة وأقرت الإخاء البشري والإنساني، كما زرع النبي (صلى الله عليه وسلم) في نفوس الجماعة الإسلامية الحب للأنصار، فقال عنهم: "لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله"، ويضرب الأنصار المثل والقدوة والإخاء الإنساني حينما اقتسموا الأرض والنخيل والثمار مع المهاجرين في المدينة، وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:(وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، وبهذا صنع الإيمان والصدق الذي كان يملأ قلوب المسلمين في المدينة المنورة جماعة اصطبغ سلوكها بالشمائل الجليلة.
ومن خلال ما سبق يتبين أن الوثيقة كانت ركن أصيل في بناء المجتمع وأحد أهم دعائم البناء الاجتماعي للدولة بما تتضمنه من تأصيل فكرة الوحدة والتآخي والمساواة والنصيحة، وهكذا زرع النبي (صلى الله عليه وسلم) بوثيقة المدينة الحب في نفوس الجماعة الإسلامية لأنفسهم ولغيرهم وإن اختلفت نحلهم ومللهم حتى تنشأ الدولة على الحب والتسامح والإخاء التي هي من مبادئ الإسلام.
وعلى الرغم من أن الوثيقة تجاهلت نظام القبيلة وأدمجت كل طوائف المدينة في الأمة الإسلامية وحثت على التآخي، إلا أن الاندماج لم يتم إلا عن طريق القبيلة، فألقى على كاهل القبائل عبء دفع ديات القتلى وفديات الأسرى، كذلك أبقت الوثيقة على رابطة الولاء وما يترتب عليها من حقوق الموالاة فلم تجز لأحد أن يخالف مولى دون مولاه."كُلُّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ".
وتجلت أبرز مظاهر الإخاء الإنساني واحترام حقوق الإنسان فيما ورد من بنود داخل وثيقة المدينة منها "وَإِنَّ النَّصْرَ لِلْمَظْلُومِ"، "وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ عَلَى مَنْ بَغَى مِنْهُمْ، أَوْ ابْتَغَى دَسِيعَةَ ظُلْمٍ، أَوْ إثْمٍ، أَوْ عُدْوَانٍ، أَوْ فَسَادٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ"، كذلك نظمت الوثيقة حق الأخذ بالثأر على نحو يجنب قيام حرب أهلية فإذا اعتدى شخص ما على مؤمن بالقتل وجب على أقرباء الجاني أن يسلموا القاتل لولي القتيل أي لصاحب الثأر لكي يقتص منه بالعدل ولا يتم ذلك إلا من خلال ولي الأمر "وَإِنَّهُ مَنْ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ قَوَدٌ بِهِ إلَّا أَنْ يَرْضَى وَلِيُّ الْمَقْتُولِ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ كَافَّةٌ، وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ إلَّا قِيَامٌ عَلَيْهِ".
وبذلك تحول مبدأ الأخذ بالثأر إلى مبدأ القصاص والأخذ بالعقاب وهذا يؤكد أن الإخاء الإنساني مرتبط بالعدل والمساواة وجميعها قيم أقرها الإسلام.
واللافت للنظر أن هذا النظام الجديد الذي آتت به الوثيقة دعم أواصر الإخاء الإنساني من خلال القانون القائم على الشريعة بدلاً من العرف القبلي وما التزم به ذلك العرف من عصبية مُهلكة، فحوت الوثيقة بين طياتها عديد من التشريعات التي شدت أزر الدولة الإسلامية الوليدة، وخلقت منها قوة متحركة حيوية، قادرة على أن تتفوق على ما حاط بها من مجتمع قبلي جامد راكد.
تركت الوثيقة لله ولرسوله (صلى الله عليه وسلم) أمر فض أي نزاع أو اشتجار يخاف فساده: "وَإِنَّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوْ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَادُهُ، فَإِنَّ مَرَدَّهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِه" وفي موضوع آخر: "وَإِنَّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوْ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَادُهُ، فَإِنَّ مَرَدَّهُ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
يُفهم من النصوص السابقة أن الحفاظ على التآخي يتطلب تحديد السلطات والاختصاصات والمهام وإعطاء كل ذي قدرٍ قدره وفي ذلك تأكيد على سلطة عليا دينية تهيمن على المدينة وتفصل في الخلافات منعًا لقيام اضطرابات في الداخل من جراء تعدد السلطات وفي الوقت ذاته تأكيد ضمني برئاسة الرسول (صلى الله عليه وسلم) على الدولة سياسيًا.
نظمت الوثيقة حياة الناس داخل الدولة الجديدة على أساس الإخاء الإنساني النابع من سيادة القانون وما يرتبط بذلك من إجراءات تنفيذية، فإذا أخل أحدًا بالأمن أو ارتكب عملاً فاحشًا فإن الأمة بأجمعها تتولى توقيع العقوبة المطلوبة، وأن الجميع مطالبون بالتضامن في تنفيذ تلك العقوبة، حتى ولو كان ولد أحدهم، ويأتي هذا التضامن من خلال طاعة ولي الأمر فيما يرضي الله وعدم التقاعس عن تقديم العون والمساعدة بشتى صورها للدولة حتى يسود الأمن والطمأنينة أرجاء الدولة.
ومن أبرز مظاهر الإخاء الإنساني من واقع الوثيقة إقرار نظام الشورى لتقوية روح الجماعة الجديدة وتدريبها على تقديم المصلحة العامة على المصلحة الفردية "هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ، فَلَحِقَ بِهِمْ، وَجَاهَدَ مَعَهُمْ، إنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ"؛ "يَتَعَاقَلُونَ بَيْنَهُمْ"، "وَإِنَّ بَيْنَهُمْ النُّصْحَ وَالنَّصِيحَةَ، وَالْبِرَّ دُونَ الْإِثْمِ".
وما سبق نماذج من بنود تحض على التشاور لاكتمال هيكلة التآخي وأوضحت الآيات القرآنية ضرورة الشورى في قوله تعالى: وَشَاوِرْهُمْفِيالأَمْرِ(وَأَمْرُهُمْشُورَىبَيْنَهُمْأتاح نظام الشورى في الدولة الجديدة أن يكون نموذجًا للارتباط الوثيق بين الحاكم مهما كانت وظيفته وبين المحكوم مهما كان دوره، فالجميع وفق نظام شورى شركاء في بناء حياتهم وتكييف أمورهم حسب المصلحة العامة وبما يتفق وتطور الزمان والمكان، وكل هذه الأمور مجتمعة تعكس بهاء وجمال وروعة الإخاء الإنساني الذي نصت عليه الوثيقة.
ويتبين أن نظام الشورى كان مقياس الإخاء الإنساني وقد حرص المسلمون طوال تطور دولتهم على الاعتماد عليه لمعرفة مدى سلامة هذا التطور، وبعده عن الانحراف والأخطاء، وحقق نظام الشورى الانطلاق السليم للدولة الإسلامية الفتية، حيث أتاح لأبنائها على عصر الرسول ممارسة حقوقهم وواجباتهم، والتعبير عن الروح الديمقراطية التي سبق وأن فطر عليها العربي بأسلوب أوسع وأكثر دقة ونظام.
وهكذا نجد أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد أفاد الإنسانية وارتقى بمستوى الحضارة الإنسانية، واتساع الفضائل والشمائل الإنسانية وهي غاية المؤمنين من بني البشر منذ آدم عليه السلام، ومن تلك الفضائل والشمائل والتسامح والمساواة والإخاء والعدل والإحسان وحُسن الخلق والرحمة والتحاب والعفو والشفقة والصفح واللين والتساهل وحسن المعاشرة والتعاطف وعدم الظلم وحسن التعامل والحياء والكرم والأمانة والصدق، وكلها أمور تسمو بها المُثل والقيم والمعايير الإنسانية، وتتقدم بها الشعوب والأمم في كافة نظمها السياسية والحضارية.
أ.د إبراهيم محمد مرجونة
أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية
الوكيل الأسبق لكلية الآداب جامعة دمنهور
الأستاذ الدكتور إبراهيم مرجونة