ما الذي دفع نبي الله موسى، عليه السلام، لينفق عشر سنين من عمره، عقدًا كاملاً من الزمان، أجيرًا بلا مقابل، مهرًا لفتاة مدين، ابنة شعيب، العبد الصالح؟ في وقت كان فيه موسى، هو المبادر بعمل المعروف (فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ)، وكان فيه شعيب، هو الذي طلبه لابنته، لا العكس (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ).
فالأقرب لمنطق الناس، والأكثر توقعًا في حياتهم، ومع فقر موسى الشديد، أن تكون هذه الزيجة، وعلى أقل تقدير، بلا مقابل.
لكنه، ورغم ذلك، دفع مهرًا، وكان المهر عظيمًا! فلماذا؟
هل سحره حُسنُها وجمالها، وفاقت بهما على نساء العالمين؟
أم أدرك أنها عظيمة الشأن، جليلة الجاه، وفيرة المال؟
لا هذا، ولا ذاك!
فالسبب الحقيقي، ذكره القرآن نفسه: فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ…
كان الحياء كلمة السر، في قبول موسى الفوري، لعرض شعيب، وكان هذا الحياء نفسه، هو السبب الأوحد، في رفع أسهم الفتاة إلى أعلى مقام..
المشية على استحياء، لو أخذت بالمقطع الأول (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) والقول كذلك على استحياء، لو أخذت بالمقطع الثاني (عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ) فالرسالة كلها، استحياء في استحياء، ولذلك كان المهر كبيرًا، تقديرًا لقيمة العفة والشرف والحياء..
كذلك، ما الرسالة التي ساقتها مريم العذراء، لكل امرأة، في كل زمان ومكان، لما قالت: (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا..).
هي تتمنى الموت والهلاك، وأن يُمْحَى أثرُها تمامًا، من ذاكرة الناس جميعًا، كي لا تستمع، ولو لكلمة واحدة، تخوض في شرفها.
الرسالة: أن الشرف أغلى من الحياة نفسها، والحرة تتوق إلى الموت، بلا تردد، وتأبى الطعن في عرضها.
لقد ساق إلينا العلم، أن الجمل لا يضاجع أنثاه، إلا في خفاء وستر، بعيدًا عن العيون، فإذا أطلت عين لترى ما يفعله، امتنع وتوقف، ونكس رأسه إلى الأرض!!
مَنْ الذي ألهمه وعلمه الحياء؟!
كان النبي صلى الله عليه وسلم، أشَدَّ حَيَاءً مِنَ العَذْرَاءِ في خِدْرِهَا، وإذَا كَرِهَ شيئًا، عُرِفَ في وجْهِهِ.
وهو (صلى الله عليه وسلم) الذي قال: والْحَياءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمانِ.
وقال: إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ..
تقول أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها): كنتُ أدخل بيتي الذي دُفن فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبي (رضي الله عنه) واضعةً ثوبي، وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دُفن عمر (رضي الله عنه) فوالله ما دخلتُه إلا مشدودةً عليَّ ثيابي، حياءً من عمر..
حتى هؤلاء الذين فرضت عليهم أعمالهم، أو هم فرضوا على أنفسهم، التخلي عن الحياء، يدركون في أعماق قلوبهم، جمال الحياء وعظمته، وروعة الصدق مع النفس، قالت الممثلة الأمريكية الشهيرة، جوليا روبرتس: السعي للكمال مرض العصر، نحنُ نُغطي وجوهنا بأطنان من المكياج، ونلهث وراء البوتكس! نحنُ نحاول إصلاح الأشياء الظاهرة، فيما الروح بحاجة إلى عملية جراحية.
وأكملت روبرتس: لا يهم ما تبدو عليه من الخارج، الداخل هو المهم، وأنا أشارككم بصورة ليس فيها مكياج، والتجاعيد على وجهي، فقط أُريد التصالح مع نفسي..
ضع كل ما سبق في اتجاه، ثم قم بمد الخط على استقامته، وانظر في حال كثير من الرجال! تستشعر الحزن والأسى، لهؤلاء الذين تشبهوا بالنساء، شكلاً ومضمونًا، لم يحفظوا للرجولة مكانًا، ولم يرعوا للوقار قدرًا:
تفنن في مُحاكاة العذارى،، وخالفهن في لبس النقابِ،،، ومن الدنيا ليس يشغله،، سوى نفض التراب عن الثيابِ،،،
لقد علمنا، رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) أن الحياء خيرٌ كلُه، وإذا أراد الله أن يُهلك عبدًا نزع منه الحياء، وأن الحياء نفسه، من صفات الله تعالى، إذ قال (صلى الله عليه وسلم): إنَّ اللَّهَ حيِىٌّ كريمٌ يستحي إذا رفعَ الرَّجلُ إليْهِ يديْهِ أن يردَّهما صفرًا خائبتينِ..