يُطلّ شم النسيم كأحد أكثر الأيام بهجة في ذاكرة المصريين، يومٌ لا يشبه سواه، تتسع فيه مساحات الفرح لتضم الجميع بلا استثناء، مسلم ومسيحي، كبير وصغير، غني وفقير، فالاحتفال هنا ليس مجرد تقليد، بل طقس ضارب بجذوره في عمق الحضارة المصرية، منذ أن سجّل الفراعنة أول إشراقة لهذا اليوم كرمز للحياة والتجدد.
موضوعات مقترحة
وفي مشهد يفيض بالحيوية، تتزين الحدائق الخضراء بالورود المبهجة، وتتعالى ضحكات الأطفال، وتعانق رائحة الوجبات الموروثة من الفسيخ والرنجة نسمات الربيع، بينما تتلاقى العائلات على مائدة واحدة بالمنتزهات ولكن خلف هذا المشهد البهيج، لا تغيب نبرة الوعي فبين فرحة اللقاء وجمال الطقس، تبرز دعوات الأطباء بالحذر من فسيخ قد يحمل في طياته خطرًا.
شم النسيم في الأسكندرية
"شمو".. عيد بعث الحياة في حضارة المصريين القدماء
أوضح أحمد عبد الفتاح، الخبير الأثري ومدير المتحف اليوناني الروماني الأسبق، أن شم النسيم هو العيد الوحيد الذي لا يزال المصريون يحتفلون به منذ عهد الفراعنة، تحديدًا منذ نحو عام 2700 قبل الميلاد، خلال أواخر الأسرة الثالثة الفرعونية، وكان يُعرف آنذاك باسم "شمو"، أي بعث الحياة أو ولادتها من جديد، وقد ربط المصريون القدماء هذا العيد ببداية فصل الربيع وعودة مظاهر الحياة إلى الطبيعة بعد فترة الركود الشتوي، فكانوا يرون في تفتح الزهور ونمو النباتات رمزًا للتجدد والانبعاث، ما يعكس تأثر حياتهم بالزراعة والبيئة بشكل كبير.
شم النسيم في الأسكندرية
البيض والفسيخ.. رموز الاحتفال من التاريخ والطبيعة
ويضيف عبد الفتاح، أنه من ضمن طقوس المصريين القدماء كان البيض يمثل رمزًا لبدء الحياة، بينما ارتبط تناول الأسماك، خاصة المملحة، بتقديس نهر النيل كمصدر للحياة، فقد كانوا يصطادون الأسماك طوال العام ويقومون بتمليحها وحفظها لتناولها في هذا اليوم، وهي عادة ما زالت حاضرة في تفاصيل المائدة المصرية الحديثة، وإن اختلفت أساليب التحضير وبعض الملامح الشكلية.
شم النسيم في الأسكندرية
شم النسيم من الفراعنة إلى المسيحيين والمسلمين
يشير عبد الفتاح إلى أنه مع دخول المسيحية إلى مصر، واجه الأقباط صعوبة في الاحتفال بشم النسيم نظرًا لتزامنه مع الصوم الكبير، ومن هنا جاءت الفكرة بتأجيل الاحتفال إلى اليوم التالي لعيد القيامة المجيد، حتى يتسنى لهم المشاركة في طقوس العيد بعد الإفطار، ومنذ ذلك الحين أصبح يوم الاثنين التالي لأحد القيامة هو الموعد الرسمي للاحتفال بشم النسيم، بمشاركة جميع المصريين، مسلمين ومسيحيين، في مظهر نادر للوحدة الوطنية والموروث الثقافي المشترك.
أسرار صناعة الفسيخ والإقبال على الشراء
ويقول محمد البرنس، تاجر فسيخ، إنه امتهن هذه المهنة منذ أكثر من 45 عامًا، وورثها عن والده، ويعتبر شم النسيم موسمه الرئيسي يبدأ الاستعداد له قبل شهر من سم النسيم، وخلال تلك الفترة يتم انتقاء السمك المناسب، وخصوصًا السمك الطازج من مزارع طينية، مع استبعاد أي أسماك مجمدة أو تم وضعها في الثلج، لما لذلك من تأثير سلبي على جودة التمليح وسلامة المنتج.
خطوات تحول الأسماك إلى "فسيخ"
ويشرح البرنس إلى خطوات التمليح بدقة، بدءًا من تنظيف السمك من الطين والشوائب، ثم تصفيته من الماء، وبعدها يُخلط بالملح والكركم والزيت ويوضع في براميل خشبية، مؤكدًا أن "تصنيع الفسيخ فن قبل أن يكون مهنة"، محذرًا من محاولات التصنيع العشوائي التي قد تُعرّض المستهلكين لمخاطر صحية جسيمة.
الرقابة الحكومية على الأسواق
وأكد البرنس أن هناك رقابة دورية مشددة من قبل وزارات الصحة والتموين على محلات ومصانع الفسيخ، لضبط المصانع غير المرخصة والتأكد من سلامة أماكن التصنيع وجودة الخامات المستخدمة.
العائلات تحيي الطقوس القديمة لشم النسيم بطريقتها
ويقول محمد فرج السنهوري إن شم النسيم هو مناسبة اجتماعية بامتياز، حيث تخرج العائلات إلى المتنزهات والشواطئ وتحرص على تناول الفسيخ والرنجة والسردين كطقس أساسي من طقوس اليوم، بينما يفضل البعض تناوله في المنزل ضمن طقوس تقليدية قد تشمل سلق وتلوين البيض.
ويضيف عبد الرازق مختار، أنه لا يزال يتذكر طفولته في شم النسيم، عندما كان يشارك في تلوين البيض وتناوله على الإفطار، ثم يخرج مع أسرته إلى حدائق الإسكندرية، مثل المنتزه وحديقة الحيوان وحدائق أنطونيادس ومعمورة الشاطئ، في مشهد من البهجة كان يترسخ في الذاكرة عامًا بعد عام.
تحذيرات طبية.. الفسيخ يحمل سُمًّا خفيًا لا يُرى بالعين المجردة
وتحذر الدكتورة مها غانم، أستاذ الطب الإكلينيكي والطب الشرعي بجامعة الإسكندرية، من خطورة تناول الفسيخ الذي يحتوي على بكتيريا خطيرة تُعرف باسم “البتيولينيوم”، وهي لا تغير شكل أو لون أو رائحة السمك، ما يصعب على المستهلك اكتشافها، وتُنتج هذه البكتيريا سمومًا قاتلة، قد تنتشر بالجسم وتستقر بين العضلات والأعصاب.
أعراض خطيرة وتستوجب التحرك الفوري
وتوضح غانم أن أعراض التسمم قد تشمل إمساكًا، وتغيرًا في الصوت، وعدم القدرة على رفع الجفن العلوي، وازدواجية في الرؤية، وهي مؤشرات على بداية شلل عضلي خطير، بينما التسمم الغذائي العادي يتسبب فقط في إسهال والقيء، ويمكن التعامل معه في المنزل.
وتشدد على أن ظهور أي من أعراض التسمم يجب أن يقابله تحرك سريع نحو أقرب مركز للسموم، لأن الإهمال قد يؤدي إلى الوفاة أو دخول المريض في حالة حرجة تتطلب أجهزة تنفس صناعي، خاصة وأن فترة ظهور تأثير السم على جسم الإنسان تتراوح مابين يومين إلى 14 يومًا من تناول وجبة الفسيخ.
الفسيخ خطر على أصحاب الأمراض المزمنة
تؤكد غانم أن الفسيخ يُعد وجبة غير آمنة لأصحاب الضغط المرتفع وأمراض القلب، وأن استخدام الليمون أو البصل لا يمنع التسمم، إذ أن تلك العادات لا تقتل البكتيريا السامة، وإنما تبقى مجرد طقوس ثقافية لا سند طبي لها.