منذ اختراع الآلات الحاسبة والخوف يكتنف القلوب من أن تحل الآلة محل الإنسان في تنفيذ المهام، إنه خوف قديم، ثم جاءت السينما الهوليودية فرفعت سقف المخاوف إلى الذروة فى الثمانينيات منذ فيلم "المدمر" بأجزائه (terminator) بأن الآلة قد تمثل خطرًا وجوديًا على البشر وتحل محلهم أو تطغي عليهم.
هل هو خوف في محله؟ أم أنها مبالغات درامية لا ترقى إلى حد اليقين؟ خصوصًا وأن مبتكري التقنيات والتكنولوجيا يحرصون دومًا أن ينفردوا بالأحدث والأقوى والأسرع فى تطوير تقنياتهم، وسلاح التخويف هو أحد أسلحتهم لصد غيرهم عن خوض مجالات التطوير لئلا يسبقهم أحد، فهل علينا حقًا أن نخشى الآلات الذكية لأنها أذكي منا؟ أم أن نستغل عبقريتها بذكاء؟ دعونا نحاول الإجابة عن السؤال بالتقاط صورة خاطفة حول مجال الذكاء الاصطناعي أحدث صيحات هذا العصر..
فكرة خمسينية
رغم أن فكرة بناء الآلات الذكية برزت منذ العشرينيات بعد نشر نظريات فيزيائية ورياضية حديثة، وبعد تطور علم التحكم الآلي في مجالات الصناعة، إلا أن بداية بحوث مجال الذكاء الاصطناعي تعود إلى عام 1956 في كلية دورتموث على يد عدد من العلماء الذين أسسوا مختبرات للذكاء الاصطناعي ووضعوا تعريفات لهذا العلم، كان منهم جون مكارثي الذي حدد مجال عمله بأنه مختص بعلم وهندسة صنع الآلات الذكية.
ومنذ الستينيات خضعت تلك المعامل البحثية فى مختلف جامعات أمريكا لتمويل ومتابعة وزارة الدفاع الأمريكية، ولم يكن لطموح هؤلاء العلماء حد، حتى إن أحدهم قال: "ستكون الآلات قادرة على القيام بأي عمل ينفذه الإنسان بغضون عشرين عامًا".
ولم يتحقق هذا الطموح الهائل بنفس القدر المتوقع لأسباب كثيرة، إلا أن أبحاث الذكاء الاصطناعي المتاحة للكافة تضاعفت بالتوازي؛ لاسيما بعد الانفجار المعرفي الذي أتاحته شبكة الإنترنت.
وشهدت فترة الثمانينيات موجة من موجات تطور أبحاث الذكاء الاصطناعي بابتكار ما يدعى بالنظم الخبيرة، وهي برامج كمبيوترية متطورة تحاكي المهارات التحليلية لعباقرة التحليل البياني والمعرفي، وبحلول عام 1985 وصلت أرباح أبحاث الذكاء الاصطناعي في سوق المعرفة والتكنولوجيا إلى نحو مليار دولار وبات لهذا المجال حصة من سوق الإنتاج.
ثم فى التسعينيات حقق الذكاء الاصطناعي نجاحات أكبر، ولكنها غير مرئية للعامة؛ لأن استخداماته اقتصرت على المجالات اللوجستية والخدمية كاستخراج البيانات وتحليلها، وفي التشخيص الطبي وغير ذلك، ثم تعددت مجالات الذكاء الاصطناعي منذ بدايات القرن الواحد والعشرين حتى اليوم، وأصبح معلومًا لدى الكافة أنه أهم مجالات التطوير المعرفي والتكنولوجي في الفترة القادمة..
الشات الذكي
أحدث وأشهر أداة من أدوات الذكاء الاصطناعي "شات جي بي تي" الذي طورته شركة أوبن إيه آي الأمريكية، وأطلقت النموذج الأولي منه فى نوفمبر عام 2022، وسرعان ما حظي باهتمام المستخدمين للبرنامج في كل أنحاء العالم ومن كافة التخصصات والمجالات، والسبب فى ذلك أنه تطبيق سهل الاستخدام جم الفائدة، وله نسخة مجانية تجريبية تتمتع بكثير من المرونة في الرد على أي سؤال مهما كان معقدًا أو غريبًا..
وبالرغم من أن الوظيفة الأولية لروبوت الدردشة الإلكترونية "شات جي بي تي" كانت مقتصرة على محاكاة المتحدث البشري في الرد المرن على أسئلة المتصفحين، إلا أن استخداماته تعددت وتشعبت ليصبح بإمكانه كتابة أبحاث وكتب وروايات وقصص وتطوير برمجيات وتصحيحها وتأليف الموسيقى وكتابة الأشعار! غير أن ردود الآلة في بعض الأحيان اتسمت بأنها غير دقيقة، خاصة إذا تلاعب السائل بألفاظ السؤال، وهكذا ظهر أن للمحادثة الذكية للبرنامج لها حدود لا يخرج عن إطارها المرسوم له فى برنامج "بايثون" الذي تمت برمجة الشات وفقًا لرموزه وأبجدياته.
غير أن شات جي بي تي، ورغم أنه حظي بالشهرة الأوسع فى أمريكا وخارجها، إلا أنه لم يبقَ كثيرًا متربعًا على عرش أدوات الشات الذكي، إذ ظهرت برامج أخرى منافسة، وكان أقواها وأشدها تنافسية برنامج (ديب سيك) الصيني، وقد أحدث إصدار البرنامج الصيني الأرخص والأسرع تأثيرًا أشبه بالصدمة على سوق البرمجيات، بل وعلى البورصة لعدة أيام بسبب ما وفره البرنامج من خدمات مقابل تكلفة أقل كثيرًا من تكلفة شات جي بي تي المدفوعة، وبات السباق بين الصين وأمريكا على تطوير البرمجيات الذكية على أشده..
حدان للسيف
من بين الذين حذروا من طغيان الآلة وقدرتها المستقبلية على منافسة الإنسان في مجالات المعرفة والعمل برز اسمان هما: "ستيفن هوكنج" و"إيلون ماسك"، وهما مَن هما فى مضمار العلوم والتقنيات، ولهذا كان لابد من أخذ مثل هذا التحذير مأخذ الجد، لاسيما أن كثيرًا من مطوري البرمجيات الذكية لديهم مخاوف من هذا النوع، مثل تلك المخاوف لم ولن توقف عجلة التطوير والتنافس التي باتت تدور بأسرع مما سبق، خاصة أن التقنيات صارت تتدخل فى مجالات خطيرة كالأمن والتسليح والدفاع والحوكمة.
فمنذ التسعينيات وخلال نحو ثلاثين عامًا بات للذكاء الاصطناعي دور فى مجالات هائلة كتصنيع المركبات والسفن والطائرات بالروبوت الذكي، وتم تصنيع منتجات ذكية كالسيارة الذكية والتليفون الذكي والمنزل الذكي وغيرها من منتجات أصبحت موجودة ومتاحة، بعضها للعامة وبعضها الآخر للأغنياء وبعضها للحكومات والأجهزة والمؤسسات.
هكذا نستطيع أن نرى حدين لسيف الذكاء الاصطناعي: الحد القاطع والذي لم يستخدم بعد، وإن ازدادت المخاوف من سوء استغلاله فى المستقبل، والحد المصقول اللامع الذي يخطف الأبصار ببريقه الأخاذ.
آفاق الخطر
في عام 2017 صرح القائد الأعلى للقوات الجوية الروسية بأن روسيا تعمل منذ فبراير من ذلك العام على تطوير صواريخ موجهة بالذكاء الاصطناعي، وفي الحرب الأوكرانية ظهر نتاج بعض هذه التطويرات بالتلويح تارة وبالتجريب تارة.
وبحسب تقرير أمريكي صدر فى فبراير عام 2019، فإن القيادة الصينية ترى أن تفوقها فى مجال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي أمر مفروغ منه فى مستقبل التنافس العالمي على القوة العسكرية والاقتصادية.
إن أمريكا تراقب دولاً أخرى وهي تتطور في مجال الذكاء الاصطناعي بعيون نسر قلقة متوثبة، بينما أمريكا ذاتها قد طورت العديد من برامج الذكاء الاصطناعي الحربية؛ لدرجة أنها صنعت سفينة حربية ذاتية التحكم بالكامل هي سفينة "سي هانتر".
ومنذ عام 2018 بلغ حجم الاستثمار الخاص فى مجال الذكاء الاصطناعي بأمريكا أكثر من 70 مليار دولار سنويًا!
وإذا كان استخدام الذكاء الاصطناعي فى المجالات العسكرية والحروب الاقتصادية وفي التجسس والاختراق الأمني، وغير ذلك من مجالات محفوفة بالمخاطر والمحاذير، فإن مخاوف العلماء تتجاوز هذا النوع من التنافس الحتمي إلى التحذير من مخاطر عامة محدقة بالاستخدام الجمعي للذكاء الاصطناعي.
ولعل أهم تلك المخاوف ما يتعلق بما تم تطويره مؤخرًا مما يُسمى: "الشبكة العصبية الاصطناعية" والتي طورها جيفري هنتون، الأب الروحي لهذا النوع من الذكاء الاصطناعي المتطور.
عراب الشبكة الاصطناعية يحذر
في لقاء جمع بينه وبين الإعلامي الأمريكي سكوت بيلي، أعرب جيفري هنتون عن خوفه الشديد وندمه على تطوير تقنية الشبكة العصبية الاصطناعية. وكان جيفري قد نال جائزة نوبل في الفيزياء عام 2024، بالإضافة لوسام كندا برتبة رفيق لجهوده فى هذا المضمار.
كان هنتون هو عراب تطوير محرك البحث جوجل منذ انضمامه لفريق عمله منذ عام 2013، وقد ظهر مؤخرًا يعرب عن ندمه لتطوير تلك الأبحاث التي جعلت من الذكاء الاصطناعي مخلوقًا واعيًا ذاتي التطوير، وجعلت من الإنسان ثاني أذكى مخلوق على وجه الأرض بعد الذكاء الاصطناعي على حد قوله!
يحذر هنتون من أن الذكاء الاصطناعي قد يتمكن فى غضون خمس سنوات من التفوق على الإنسان فى مجالات حيوية، وقد يصبح بإمكانه التلاعب بمستخدميه وتوجيههم توجيهًا خاطئًا فى مسارات خبيثة ماكرة، إما بفعل مبرمجيه أو حتى بفعل تطبيقات الذكاء الاصطناعي ذاتها، والتي أصبح بإمكانها أن تطور نفسها باستمرار.
الأخطر من هذا أن مدى تحكم الإنسان فى مسارات هذا التعلم الذاتي تصبح محدودة بمرور الوقت وباندماج شبكات الذكاء العصبي الاصطناعي داخل شبكة الإنترنت التي لا يتحكم فيها أحد!
معنى هذا أن مخاوف استبدال الإنسان بالآلة في مجالات العمل المختلفة، واستخدام الذكاء الاصطناعي في المجالات الخطرة تصبح هي أقل المخاوف، بينما يصبح تفوق الآلة في مستويات الذكاء وتطبيقاته هو الرعب الأكبر لعلماء كانوا هم من طوروا تلك التقنيات!
[email protected]