لماذا هاجرت شابة بلجيكية إلى مصر لتعمل في ورشة نجارة... وماذا تفعل كل أسبوع في سوق التونسي؟
موضوعات مقترحة
عاشت وسط الغابات ودرست الطهو والتمريض والنجارة... وتتحدث العربية بطلاقة رغم أنها لا تفهمها قراءة ولا كتابة
كل العاملات في الورشة من "السيدات المعيلات" وتخصصت في صناعة لعب الأطفال من مواد صديقة للبيئة
في البداية اعتقدت أنها فتاة أوروبية ساقتها قدماها من باب الفضول خلال رحلة سياحية إلى سوق التونسي لمشاهدة أكبر تجمع للخردة والأثاث القديم، لكنها ظهرت في الفيديو وهي تقول جملتها التي تبدأ بها كل فيديوهاتها " 100 فل عليكم" ثم واصلت حديثها بلهجة مصرية لطيفة لتروي كيف اشترت دولابا قديما ثم نقلته إلى ورشتها لتقوم بإعادة تصنيعه من جديد ليبدو كأفخم قطعة ديكور يمكن شراؤها من صالات المزادات لبيع الأثاث، فما هي قصة الأسطى كريستين؟
كريستين ديلين، ٣٢ عاما، هي الابنة الصغرى لأسرة كانت تعيش في ريف بلجيكا الجميل بين مقاطعتين مختلفتين، ولذلك عاشت معظم حياتها بين المزارع والغابات، ونشأت في عائلة مجتهدة لطالما وجدت شغفا في التعلم والتطوير وبناء أشياء جديدة، تقول: أسس والدي وعائلتنا الصغيرة مشروعنا الزراعي الخاص من الصفر تقريبا، ثم اتبع والدي شغفه في تجديد المباني التاريخية بمساعدة أخي الذي يعمل مهندسا، وشيدوا واحدة من أكبر القلاع في مدينة فلاندرز، وفي بلادي يُقال إن كل بلجيكي لديه شغف بالبناء والحرف اليدوية، ولقد مكنتني هذه الثقافة من تعلم العديد من المهارات والحصول على عقلية القيام بكل شيء، مما ساعدني كثيرا في رحلتي.
البلجيكية كريستين ديلين
كريستين تعتبر "التعلم المستمر" هو شعارها في الحياة، لا تذكر عاما مضى عليها دون أن تدرس لغة جديدة، أو تحصل على شهادة علمية، فقد درست في مدرسة للطهو وعملت لفترة " شيف" في مطعم ، ثم درستُ التمريض ، وجاءت إلى مصر وبدأت في تعلم اللغة العربية وتدريس اللغة الهولندية، وفي الوقت نفسه، بدأت مسيرتها المهنية في النجارة وحصلت على دبلوم الصنّاع في "فاب لاب"، تقول: التقيت بزوجي الحالي في هولندا عام ٢٠١٥، وبدأت بزيارة مصر لاحقا في ذلك العام للتعرف على البلد وثقافته وعائلته، كنت لا أزال أدرس التمريض آنذاك. وقعتُ في غرام الثقافة والطعام، وكل شيء هناك، باستثناء حرّ الصيف، وانتقلتُ إلى مصر بشكل كامل في يونيو ٢٠١٧ بعد تخرجي، وبعدها تزوجت وقررنا البقاء هنا.
البلجيكية كريستين ديلين
وعن بدء علاقتها بالنجارة والأخشاب بشكل عام، تضيف: في طفولتي، كان أخي يبني منحدرات لدراجاتنا ومخيمات صغيرة من الخشب الفائض الذي كان يجده حول مزرعة عائلتنا، ورأيت والدي وأخي يقومان بأعمال ترميم في مبنى تاريخي ، كانت هناك أيضا غابة مليئة بالأشجار القديمة، فصنع والدي بعض الطاولات والأبواب من أشجار البلوط القديمة المتساقطة، وبعد مجيئي إلى مصر أردت صنع بعض الألعاب الخشبية لأطفالنا المستقبليين ولأطفال أخي وأطفال الأصدقاء والعائلة، بحثت عبر الإنترنت، وتابعت أيضا بعض الدورات في مصر. بدأت باستئجار مقعد من ورشة القاهرة وعملت على تصميماتي الخاصة. بعد نجاح أول لعبة، بدأت بشراء أدواتي الخاصة. أنشأت ورشة عمل صغيرة في شقتنا في البداية، ثم استأجرنا مكان عمل في المعادي لأتمكن من توظيف النساء لمساعدتي، وبحثتُ في البداية عن مناطق أخرى خارج القاهرة، لكن سهولة الوصول مهمة بالنسبة لي، فالورشة قريبة من المترو ووسائل النقل الأخرى، وأريد أن يتمكن أصدقائي والعاملون في الورشة من الوصول إليها بسهولة وفي وقت قصير.
البلجيكية كريستين ديلين
سألنا كريستين: كيف يتعامل المصريون معك، سواءً من الزبائن أو السكان أو أصحاب الورش المجاورة؟ وأجابت: أولاً، أود أن أقول إني أحب المصريين، ثقافتهم المتنوعة، وروح الدعابة العميقة، وكرم الضيافة، من الصعب ألا أكون من المعجبين بهم، والحمد لله، معظم الناس لطفاء جدًا في تعاملهم معي. أحيانا يأتي المارة إلى الداخل للترحيب بي وسؤالي عن أعمالنا، أنا محظوظة لأنني وجدت مجتمعا لطيفا من النجارين نلتقي مرة شهريا ونناقش مواضيع مختلفة في مجال النجارة، بل ونقوم بمشاريع رائعة معا تتضمن إعادة تدوير الخشب القديم. كان آخر مشروع هو إعادة تدوير شيش خشبي قديم وابتكر كل نجار مشروعا مختلفا، وكان ممتعا للغاية.
لكن عمل السيدات في مجال النجارة بمصر ليس معتادا، فما بالنا وكانت "سيدة نجارة" وأيضا أجنبية، تقول كريستين: في الواقع، التقيتُ بالعديد من النساء في النجارة خلال الدورات التي التحقتُ بها وفي مجموعات النجارة المصرية، وهناك العديد من الأماكن التي تُدرّس النجارة والفنون المصرية التقليدية المتعلقة بالخشب، وأغلبية الطلاب من النساء. صحيح أن مجتمع النجارة الذي أنتمي إليه يتكون من أغلبية من الرجال، لكن المجموعة ودية للغاية وتتميز بأجواء رائعة، جميعنا نرغب في التعلم والمشاركة.
البلجيكية كريستين ديلين
بخلاف أعمال النجارة العادية، ورشة الأسطى كريستين متخصصة في المنتجات الخاصة بلعب الأطفال الخشبية، وهي تتعاون مع منظمات غير حكومية محلية، على سبيل المثال، تتولي تصنيع مجموعات ألعاب لصالح جمعية الحفاظ على البيئة (APE)، كما تقوم بتصنيع ألعاب أطفال رياضية وأكياسا قماشية من مواد مُعاد تدويرها للتغليف، ويقوم علي مشروعها سيدات معيلات، تقول: أُفضّل العمل مع النساء، وأُعطي الأولوية لتوظيفهن طالما أنهن قادرات على تقديم جودة عالية، وهذا لتوفير بيئة عمل آمنة وملائمة في مجال قد يكون يهيمن عليه الرجال أكثر، وبدأتُ عملي بألعاب الأطفال لأنني رأيتُ حاجة الأطفال لتفريغ طاقتهم بنشاط وبطريقة مُنتجة. خاصةً خلال جائحة كوفيد-١٩، وأردتُ صنع ألعاب عالية الجودة من الخشب لأنني لا أحب الألعاب البلاستيكية أيضا، والآن أعمل على إنشاء محتوى حول تجديد الأثاث، ولأن مصر لديها تاريخ طويل من الحرف اليدوية الرائعة، فهناك الكثير من الجواهر الخفية في الأثاث القديم. ولكن مع قلة الصيانة، يُهمل هذا الأثاث. يظهر محتواي لأي فرد من أفراد الأسرة كيفية إضفاء حياة جديدة على قطع الأثاث القديمة، خاصة مع الارتفاع الهائل في أسعار الأثاث الجديد، وأعتقد أن هذه المهارات قادرة على تعزيز الاستدامة والكفاءة الاقتصادية للأسر والمجتمع ككل، وأنا أعتمد على مواد كلها صديقة للبيئة مثل شمع العسل الطبيعي وخشب البتولا الرقائقي، وخشب الزان، والأقمشة القطنية.
كريستين تذهب أسبوعيا إلى سوق التونسي لكي "تلتقط" أي قطعة خشبية قيمة ونادرة وشكلها جميل ، ثم تعيد تصنيعها بشكل مختلف أو تدويرها بالكامل، تقول: قد يستغرب البائعون أحيانا رؤية سيدة أجنبية، لكنهم دائما ودودون ويرحبون بي في مصر، ويسألونني من أين أنا، ولكن معاناتي الوحيدة في المساومة أو "الفصال" لأن هذا ليس جزءًا من عاداتنا في بلجيكا، لذا يصعب عليّ ذلك، خاصة وأنني أشعر بالحرج عندما أطلب أقل مما يطلبه البائع، ولذلك بعدما فهمت طبيعة البيع والشراء وأنه دائما هناك هامش يضعه البائع فوق السعر تحسبا للفصال .. أصبحت أذهب برفقة أصدقائي المصريين الذين يفوقونني مهارةً بكثير في هذه المسألة.
البلجيكية كريستين ديلين
كريستين تتحدث اللهجة المصرية بطلاقة شديدة رغم أنها أصلا لا تجيد القراءة والكتابة باللغة العربية الفصحي ، تقول: منذ أن قررتُ أن أبدأ حياتي في مصر مع زوجي، حضرت دروسا منتظمة مرتين أسبوعيا في عدة مدارس في مصر الجديدة والزمالك والمعادي، وساعدني المعلمون علي فهم الثقافة والمفردات العامية بشكل أفضل، كما التقيتُ بطلاب من مختلف أنحاء العالم، ولأنني قادمة من قرية بلجيكية صغيرة، كان التعرض لهذا التنوع الثقافي ممتعا وثريا للغاية، واللغة العربية صعبة للغاية، لذلك تُركز معظم المدارس أولًا على التحدث والفهم لتسهيل اندماجك وحياتك اليومية، ومعظم الأجانب الذين قابلتهم ويريدون البقاء في مصر يرغبون في تعلم كيفية إدارة حياتهم اليومية بسرعة بدون الحاجة إلى معرفة النصوص المكتوبة، لكن بالتأكيد أتمنى تعلم كتابة وقراءة الفصحى لكي أساعد أطفالي في واجباتهم المدرسية باللغة العربية.
البلجيكية كريستين ديلين
بعد نحو 8 سنوات من الحياة في مصر ، كريستين لم تفكر للحظة واحدة في العودة مع زوجها لبلجيكا، ومازالت تشعر بكرم الضيافة المصرية وحفاوة الاستقبال، تقول: لم تكن السنة الأولى من التأقلم مع الحياة الجديدة هنا سهلة، فقد كنتُ أفتقد عائلتي، والطعام الذي اعتدتُ عليه، والطبيعة الخضراء في قريتي، لكن بفضل حفاوة عائلة زوجي، والشعب المصري، والبلد، استطعتُ التأقلم بسهولة أكبر، بالنظر إلى الوراء، بعد ثماني سنوات قضيتها في مصر، أشعر بسعادة غامرة لأنني تعرفتُ على هذا البلد الجميل بفضل زوجي، لقد تعلمتُ العديد من المهارات الجديدة هنا، وقابلتُ العديد من الأشخاص المبدعين والطيبين من مصر والعالم، أشعرُ بأنني محظوظة جدا بوجود أصدقاء وجيران طيبين، لكن بصراحة الشيء الوحيد الذي لا أستطيع التعود عليه ولا يزال غريبا بالنسبة لي هو رؤية القمامة تُلقى في الشارع من نوافذ السيارات!.