أواخر رمضان الماضي، وفي معايدة مع إحدى قريباتي بالمنوفية، تبادلنا الحديث عن أوضاع الدراسة والمدارس؛ حيث تعمل مدرسة لغة عربية بالمرحلة الإعدادية، فذكرت لي أن حجم المجهود المبذول يوميًا يحتاج إلى ثلاثة في واحد، وتقصد ثلاث شخصيات للمدرس مع أنه شخصية واحدة، وقالت إن وقت الحصة -ويتراوح ما بين ٣٥ و٤٥ دقيقة- قد أصبح يذهب أغلبه في أعمال مكتبية تخص التأكد من أن الطالب نقل الواجب من على السبورة، وهو واجب تضعه الوزارة على موقعها للجميع.
ثم يأتي بعد ذلك تصحيح كراسات الطلاب ووضع الدرجات لها وليس كلمة "نظر" التي تم منعها، ثم رصد الدرجات في كشكول آخر، وأصبحت أراجع ما كتبته ونقلته مرتين وثلاثة خوفًا من خطأ ما -ربما غير مقصود- في نقل درجات الطلاب، ثم التأكد من نقل الطالب للتقييمات التي تجريها أسبوعيًا، وليس بها اجتهاد من المدرس، وإنما هي منقولة من موقع الوزارة؟! بجانب رصد غياب الطلبة وتدوينه.
وهنا تذكرت رسالة قرأتها لولي أمر في جروبات المعلمين، يشرح فيها أسباب غياب أولاده، ومنها ارتفاع تكلفة مستلزمات الحضور للمدرسة من مواصلات إلى المصروف والسندوتشات، وارتفاع عدد الكشاكيل هذا العام، والتي لا حصر لها لكل مادة من أجل كتابة التقييمات، وطبع ورق الأداءات (الواجب) والموجود على الموقع، فإذا كان لدى ٣ أطفال في مراحل التعليم المختلفة، فالتكلفة والجهد يتضاعف، لا سيما أن هذا العام وضع أكثر من ٥٠٪ على أعمال السنة ودرجات الحضور، هذا بجانب ضرورة حضور الدروس الخصوصية، أو المجموعات الدراسية، حتى يفهم الطلاب المناهج؛ لأن هناك عجزًا في أعداد المدرسين، ووقت الحصة للشرح قليل؛ فالغياب إذن ليس مسئولية المدرس أو الناظر.
فسألتها عن صحة مضمون الرسالة، فقالت بالفعل نحن من المفترض لسنا مسئولين عن التزام الأهل بعدم الغياب، ورغم ذلك نحاسب وندون الغياب والمتابعة، قلقًا من "الضبطية" ومن لجان المرور والتفتيش والإدارة، وليس من ناظر المدرسة فقط، فالجهات الرقابية أصبحت متعددة وكثيرة، ثم ما يتبقى من وقت الحصة يكون لشرح الدرس في المناهج الجديدة بالإعدادي، وأغلبها يحتاج إلى جهد كبير منا، خاصة أننا لم نتدرب كثيرًا عليه، إلا تدريبًا سريعًا قبل بداية العام الدراسي.
تطور النقاش بيننا، وسألتها وأجابت بأنه لم يعد لنا مساحة كبيرة في الوقت أو للإبداع مثلًا في شرح الدروس، فكله أصبح يتم مركزيًا بما فيها الأسئلة والإجابة، والتقييم لي أصبح يتم من خلال الالتزام بهذه التعليمات وتدوينها في الكشكول، فكل شيء محسوب عليَّ، ولذلك أتمنى اختراع شخصية مساعدة أو ثلاثة في واحد مثل معلبات القهوة السريعة.
إلى هنا انتهت كلمات المدرسة أو رسالة ولي الأمر، والذي دار نصًا بيننا قبل شهر، وأجلت الكتابة عنه لما بعد رمضان والعيد وقرب انتهاء العام الدراسي؛ لإجراء تقييم موضوعي للقرارات المستجدة، ولولا أمانة الكلمة والثقة لكتبت اسم المعلمة أيضًا، ولكن تسارع الأحداث على الساحة التعليمية مؤخرًا، وما شهدته محافظة المنوفية من وفاة مفاجئة لمدير إدارة الباجور يجعل من البحث فيما وراء الكلمات والواقع قضية ملحة، خاصة أن الأمر يتكرر، ومنذ زمن وليس الآن فقط.
فمن خلال متابعتي للشأن التعليمي ولعقود، رصدت حالة من اللا سعادة التعليمية المستمرة، وأنه هناك حالة من الاستنفار التعليمي عند كل أطراف العملية التعليمية؛ أي حالة من التوتر المكتوم تزدهر مع كل تغيير وزاري والقرارات المصاحبة له، فالعملية التعليمية متعددة الأطراف من الفاعلين بها، وكذلك المستفيدون منها، لذلك فإن أي عملية للإصلاح، وليس الثورة التعليمية، تتطلب أولًا وضع الرؤية المتكاملة، ثم الأهداف المرحلية منها أو بعيدة المدى، وتستلزم لنجاحها إقناع هذه الأطراف العديدة، وإدخالهم كأصحاب مصلحة حقيقية في الإصلاح، خاصة في الأهداف قصيرة المدى التنفيذية، وعدم الاستبعاد لطرف أصيل منها، خاصة المدرس، ومن الاستماع لرأيه التنفيذي، وليس على طريقة (الضبطية)؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن تتعثر أي محاولة لإصلاح سواء الجزئي أو الكلي.
وقد عانى التعليم المصري طويلًا، وعلى مدار عقود، من هذه النظرية الفوقية للخطط التعليمية ووضعها؛ ولذلك ما إن يذهب وزير ويأتي آخر، إلا وتتعدد المحاولات والكلام والشكاوى في استنساخ متكرر، وأذكر أنني اصطحبت وزراء كثر في جولات مفاجئة، كما يطلق عليها!، فلا أسفرت عن حلول جذرية أو تطويرًا للتعليم، وهكذا ندور في حلقة مفرغة من القرارات، ومن تغيرها المستمر بتغير الوزراء.
فنحن لا نحتاج إلى الضبطية، وإنما نحتاج إلى إشراك الفاعلين وأصحاب المصلحة معنا، فحينما يتفق الأغلبية أن كثرة الواجبات المركزية ليس لها جدوى حقيقية في أرض الواقع، لأن الطالب ينقلها ومعها الإجابة أيضًا وحولت الحفظ والتلقين من المناهج والطلاب إلى المدرسين، وكذلك كثرة إجراء التقييمات الأسبوعية والشهرية واليومية، والتفتيش عليها أصبح أمرًا مبالغًا به؛ لأنها عملية ورقية تمامًا، بينما الأفضل هو الرقابة الواحدة وعودة التفتيش مثل الماضي، ودوره في متابعة الأداء والفهم والشرح للدروس، وليس مجرد الرصد الورقي في تعدد لأنواع الكشاكيل، فتعدد المهام أرهق الأسرة والمعلم الذي يحتاج، كما قالت مدرسة الإعدادي، إلى شخصية ثلاثة في واحد.
وربما آن الأوان الآن، وبعد عقود من تجربة وتطبيق نظرية "الضبطية"، إلى الإنصات والاستشهاد بتجارب وبحلول أخرى للإصلاح، قدم بعضها التربوي البرازيلي الأشهر باولو فيراري في مذكراته وكتبه، وبتتغير الدفة والهدف من الضبطية إلى الحوار مع الفاعلين الأساسيين وأصحاب المصلحة، وصولًا إلى حالة السعادة التعليمية والتطوير الحقيقي.