مسار العائلة المقدّسة.. الحج إلى الروح

14-4-2025 | 11:28

مسيرة من نور محفوفة بالنور، أولها نور، وامتدادها نور، مسيرة البركات في أرض الطمأنينة، لمع الحصى في الطريق وتندى الثرى بالسكينة، فصار للطريق روح وللجدران روح، واهتزت الأشجار نشوانة بالسائرين. 

في كل خطوةٍ على هذا الدرب القديم، يهمس الحجرُ برنين التاريخ، ويذوبُ الحاضرُ في أحضان الماضي، فتنبثقُ أمام العين رؤيةٌ تذوب فيها الحدودُ بين الزمنين. لم يكن مسار العائلة المقدّسة مجرّد خارطةٍ تمتدّ من بيت لحم إلى أريحا مرورًا بصعيد مصر ووادي النيل، بل هو قصيدةٌ نًسجت بعناية نورانية تتغنى بها الأرض وتشدو الكائنات، ملحمةٌ روحانية تستدعي فيها البشرية لحظات اللقاء مع الذات والآخر، مع السماء والأرض، مع الإيمان الذي لا يعرف الحدود. 

حين تدلفُ إلى كنيسة القديس سرجيوس في القاهرة القديمة، تشعر بأنك تعانقُ زمنَ الآباء والأجداد، تلامسُ جدراناً تشهدُ مرورَ مريم العذراء وابنها المبارك ويوسف النجار، تستنشقُ عبقَ السكينة التي ملأت المكانَ حين احتضنتهُ خطواتُ الطفل يسوع. هناك، حيث تنهمرُ أشعةُ الشمس الخافتة عبر نوافذَ ملونةٍ، تتسربُ إلى القلب بذات الدفء الذي حملته العائلة المقدّسة في ليلِ لجوئها، فتدركُ أن هذه الأرضَ قِبلةُ التلاقي بين السماويّ والإنساني.
 
وعند "عين شمس القديمة"، حيث كانت تفيضُ ينابيعُ الأملِ في قلبِ القاهرة، يروي المكانُ حكايةَ الفرار من الخطر أو لنقل من شرور الزمان والمكان، إلى رحابة الاطمئنان، فيسيرُ الزائرُ بين أطلالٍ تحملُ سرّ البقاء رغم الرياح العاتية. هنا يبدأُ الشوقُ رحلته في متابعة الدرب، وتلمسِ علاماتِ الرحلة التي رسمتها قوافلُ الإيمان، فتجد نفسكَ تسيرُ في وادٍ خصبٍ، محاطٍ بأشجارٍ نضرةٍ تهمسُ: "لقد جئتَ لتعيدَ قراءةَ روحِ التاريخ". أما في وادي النطرون، فتأوي الأديرةُ القاسيةُ روحَ التأمل، ويختبئُ في ظلالِ الأيقونات ضوءٌ لا يخبو. تسمعُ الصمتَ يتلو آياته بصدى الأجراس البعيدة، فتؤمنُ أن الروحَ لا تحتاجُ إلى كلماتٍ كثيرةٍ، بل إلى مساحةٍ واسعةٍ من الانكفاء على الذات، كي تنبثقَ من جديدٍ حاملةً نوراً للآخرين. 

ومع كل ميلٍ تخطوه في صعيد مصر، بين المنيا وأسيوط وسوهاج، يستقبلكَ أهلُ البلدِ بترحابٍ يفيضُ صدقاً. تُعانقُ وجوهُهم آثارَ الزمنِ، وتلمسُ في بسماتهم شغفاً بحكايتك التي لم تزل تتشكّل. هنا، يصبحُ السائحون بالشغف جزءًا من الحكاية الممتدة، رفقاءَ دربٍ يصل الأرض بالسماوات، بين أمكنةٍ تبدو للناظرِ قطعِ فسيفساءٍ، وللمسافرِ لآلئ ذات صدى بعيد. 

إنّ الأهمية الروحية للمسار المقدس تكمنُ في إعادة ضبط بوصلةَ الرحمة للإنسانِ، وإيقاظ شغفَ التأمّلِ في خبايا النفس، ليتعلم بل ويشعر بأنَّ الرحلةَ الحقيقيةَ تبدأُ من داخلنا قبل أن تمتدّ إلى خارجه. وربما كان هذا البعد الروحي المرتبط بوشائج التاريخ، يُسلم راية النور وتسليط الضوء المستحق على البعد السياحيّ، فمسار العائلة المقدسة تنسمٌ حي عبقِ التاريخِ وروعةِ الطبيعة في الوقت ذاته، اللوحة الآسرة للعين الجامعة لسكونِ الصحراءِ وامتدادِ النيل معًا، غير أن بعدًا عميقًا ومؤثرًا يرتبط بالجانب الإنساني في مسارُ العائلةِ المقدّسة، حيث الدعوة الصامتة إلى التآخي والتعايش. إذ يذكّرُنا بأنّ النزوحَ واللجوءَ ليسا حكراً على شعبٍ أو زمانٍ، بل تجربةٌ إنسانيةٌ مشتركةٌ، تُعزّزُ التعاطفَ وتبني جسورَ الفهمِ بين الشعوب. 

وفي كلِّ خطوةٍ، يولدُ في النفسِ إيمانٌ عميقٌ بأنّنا إذا شاركنا الآخرَ لحظاتِ ألمٍ وأملٍ، فإنَّنا نخطو معاً نحو إنسانيةٍ أكثرَ صفاءً ونقاء. 

هذه المسيرة المباركة التى سارت خلالها العائلة المقدسة، فى رحلة برية من بيت لحم إلى غزة إلى غرب العريش ثم مدينة بسطا محافظة الشرقية، قبل أن تتوجه للجنوب، رحلة في ثنايا الصحراء الممتدة كصفحة بيضاء تتلقى مداد التاريخ، كان لابد لها أن تبقى نبراسًا مضيئًا في الوجود وقصيدة وطنية تُرتل فيها تراتيل الإنسانية، ومشهدًا باقيًا يسر الناظرين والزائرين، من هنا كان مشروع إحياء مسار رحلة العائلة المقدسة واحدًا من أهم المشروعات القومية التي توليها الدولة المصرية اهتماماً كبيراً، وتطلب ترتيبا وجهودا للاستفادة الكاملة من إمكانات سوق السياحة الدينية من خلاله، لدعم السياحة المصرية والحصول على نصيبها العادل من حركة السياحة الدينية فتم ترميم المواقع الأثرية الواقعة على هذا المسار، وتطوير الخدمات السياحية بتلك المواقع، والتي شملت رفع كفاءة الطرق المؤدية لها لتأهيل جميع نقاط المسار وتكوين بنية تحتية وإنشاء طرق جديدة لتمهيد دخول وسائل النقل السياحية لها وتوفير الخدمات واللوحات الإرشادية وتوفير فنادق محيطة، وكذلك أعمال التنسيق العام للمواقع المحيطة بها من بينها كنيسة العذراء جبل التير بمحافظة المنيا، أديرة وادي النطرون، كنيسة العذراء مريم والشهيد أبانوب بمحافظة الغربية، تل بسطا بمحافظة الشرقية، كنيسة السيدة العذراء بمحافظة كفر الشيخ، وشجرة العذراء مريم. ففي لفتة بل وثبة إيجابية فاعلة، أقدم منير غبور رئيس جمعية إحياء التراث الوطني على المشروع القومي المتكامل لإحياء وتطوير مسار رحلة العائلة المقدّسة في مصر، كقصيدة وطنية تُرتّل فيها أحرف الإيمان والإنسانية، فهذا المسار ليس مجرد خريطة أو طرق معبدة، بل هو نبضٌ حقيقيّ في قلب مصر، يرنو إلى استعادة روحٍ ضائعة، ويرسم خارطةً للمستقبل على صفحات الماضي، ويرى غبور أن العائلة المقدّسة حين زارت مصر كانت لجميع المصريين، لذا فإنّ إحياء هذا المسار بمثابة مشروعٍ وطنيٍ يجب أن تستفيد منه الدولة والشعب معاً، بعيدًا عن أي بعد طائفي، وتأسست شركة "المسار للتنمية السياحية"  برأس مال 4.5 مليار جنيه وحجم الاستثمار الكلي يصل إلي 15 مليار جنيه، بهدف تطوير الخدمات في نقاط المسار، وسيتم افتتاح المرحلة الجديدة النصف الأخير من عام 2026، مع خطة لزيادة رأس المال، فالمسار يضم 25 نقطة أثرية ودينية تمتد لمسافة تقارب 3,500 كيلو متر ذهاباً وإياباً من سيناء إلى أسيوط، تشمل أديرة وكنائس وآباراً وأيقونات مسجّلة بسجلات الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وعند اكتمال التطوير من المتوقع أن يصل عدد زائري المسار إلى نحو 20 مليون سائح سنوياً، بعد إعدادٍ قويم يشمل الترميم والتطوير وخدمات الضيافة، فضلًا عن البرامج الثقافية والفنية، والتي من أبرزها أوبرا "مصر الطريق" التي تم إنتاجها لتخليد ذكرى المسار، فأوبرا "مصر الطريق" كُتبت بنوتات الضوء، وأُحيت بأصواتٍ مصريةٍ تلامس روح كل قارئٍ لهذا المشروع. إنها ليست حفلةً موسيقيةً فحسب، بل قصيدةٌ صوتيةٌ تخلّد ذاكرة الدرب، وتدعو العالم لاستنشاق هواءٍ تملأه روح التسامح. تلك النداءات الفنية، التي تجاوزت حدود مصر ووصلت إلى الفاتيكان وباريس وأمريكا، لتشهد على أن المشروع ارتقى إلى رسالةٍ إنسانيةٍ كونية. 

حين تتسلّل إلى جنبات أديرة وكنائس المسار، من سيناء إلى أسيوط، تتعرّف على وجوهٍ صامتةٍ تهمس بأسرار الرحلة، حجارةٌ ترنّ صدى خطوات العائلة المقدّسة، وأيقوناتٌ تشهد على عناق السماء بالأرض، هنا لم يعد السائح زائراً عابراً، بل رفيق دربٍ يحمل على كتفيه ثقل الذاكرة، ويشارك في كتابة فصول جديدة من الرحمة والتعايش. إن الاستثمار الذي يقارب 2.5 مليار جنيه ليس مجرد أرقامٍ تُسجل في دفاتر الاقتصاد، بل هو وعدٌ بأن تُترجَم الصدقات الصغيرة التي قدمتها مصر للعالم عبر التاريخ، إلى مشاريع تنبض بالحياة  
وفي قلب هذا الحلم، ومع كل ميلٍ يُضاف إلى خريطة المسار، يفيض قلب الإنسان بعشقٍ جديدٍ للوطن، ويزهر الأمل في تربته الخصيبة، فالطرق المعبدة، والأبراج التي أُعيد ترميمها، واللوحات الإرشادية التي تهمس بالترحاب، والفنادق الصغيرة التي تحتضن المسافرين، كلّها لم تكن سوى أجنحةٍ تطلق الطائر البشري نحو سماءٍ أكثر اتساعاً. 

إنها دعوةٌ مخلصة كي نعود إلى جذورنا، نتعلم من خطواتٍ مست أرض الوطن بالرحمة قبل ألفي عام. هكذا يتحوّل مشروع مسار العائلة المقدّسة في عيوننا إلى أسطورةٍ معاصرة، لا تحكي فقط عن رحلةٍ دينية، بل عن ملحمةٍ تسعى لإعادة بناء الإنسان على قيم الرحمة والكرم والتآخي. إنه اليوم، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، نبراسٌ يضيء دروبنا، ويعيد إلى الروح بوصلةَ الحبّ التي لا تعرف حدوداً ولا انتماءات.

كلمات البحث