بعد 500 أغنية و33 ألبوما و10 أفلام و3 مسلسلات: "أُقر أنا المذكور أعلاه" بأنني عشت لايشغلنى شىء إلا الغناء!
موضوعات مقترحة
لا أستطيع تقديم ما أجرح به البيت المصري بموضوعات تافهة .. والجمهور ليس "حقل تجارب"
ألبوم "الملك" كان الصرخة السياسية الأولى في تاريخ الوطن العربي
ذهب شقيقه فاروق إلي بليغ حمدي لكي يسمعه.. وهناك كانت المفاجأة
شارك عبد الرحيم منصور وأحمد منيب وفؤاد حداد وهاني شنودة في ألبومه الأول "أمانة يا بحر".. لكنه فشل بشكل ذريع
أهم ما يميز منير عن كل أبناء جيله أنه الوحيد الذي كان يحمل مشروعا غنائيا متكاملا
اشتهر منير بموسيقاه التي يخلط فيها موسيقي الجاز بالسلم الخماسي النوبي ومظهره غير الملتزم بتقاليد المطربين
"أُقر أنا المذكور أعلاه .. الساكن فى العنوان إياه .. بإنى سهرت العمر ونس .. وعشت بكل كيانى حرس .. وطفت بلادك ناى وجرس .. والعاشق .. بينقط بهواه" .. كلمات محمد منير ليست مجرد أغنيات تمر ثم تختفي وسط الزحام .. لكنها تسجيل لموقف ووجهة نظر، وشهر ابريل عام 2025 يعني الكثير بالنسبة لـ "الكينج" .. فهو يشهد احتفاله بمرور 50 عاما علي بدء انطلاقته الحقيقية نحو الشهرة وإحيائه لأول حفل موسيقي أمام الجماهير باعتباره مطربا محترفا صاحب مشروع غنائي مختلف تبلورت ملامحه بعدها من خلال ألبومه الرائع "بنتولد" .. حكاية 50 سنة منير نعيش معها في السطور التالية.
بداية الرحلة
محمد منير أبازيد جبريل متولي، مواليد 1954 بأسوان بقرية منشية النوبة بأسوان، ومحمد منير اسم مركب، حيث والده اسمه أبازيد وليس منير كما يعتقد البعض، وتلقى منير تعليمه المبكر في أسوان قبل أن يهاجر مع أسرته للقاهرة بعد غرق قرى النوبة تحت مياه بحيرة ناصر التي خلفها السد العالي، وكان ترتيبه السادس بين إخوته، ورغم انه تربى على عشق أغانى العبابدة والبشارية إلى جانب الأغانى النوبية، إلا أن حلمه الأول كان أن يصبح لاعب كرة قدم، وشارك بالفعل فى فريق النادى النوبى العام بأسوان، وبعد حصوله على الثانوية العامة، انتقل إلى القاهرة للدراسة فى كلية الفنون التطبيقية قسم التصوير، ورافقه فى تلك الرحلة شقيقه فاروق الذى كان يعمل مرشدا سياحيا ويتمتع بصوت جميل ورغبة قوية فى دخول عالم الأغنية، لكن القدر شاء لشقيقه الأصغر أن يسلك هذا الاتجاه، في السبعينيات عرض عبد الرحيم منصور على صديقه فاروق أن يقدمه لبليغ حمدي في جلسة تشبه الاختبار، فاصطحب فاروق شقيقه الصغير، محمد، لكي يردِّد وراءه ويصبح كورس يساعده في القبول، "تَسَلْطَن" الطفل محمد منير أكثر من فاروق، كان صوته مختلفا، لا يشبه السابقين، ولا يقلد أحدا، فأشار بليغ إلى فاروق لكي يصمت، وإلى شقيقه ليرفعَ صوته حتى انتهت الأغنية، فقال إن "الولد الصغير ده هو الأحسن"، استولى الشقيق الأصغر على لقب "المطرب" من شقيقه الذي كان معروفا في النوبة في الحفلات والأفراح والمناسبات.
وفي أثناء دراسة منير استمع إليه زكي مراد اليساري النوبي المعروف فأوصى به الشاعر المعروف عبد الرحيم منصور، وكبرت الدائرة لتشمل المطرب النوبي الكبير أحمد منيب الذى قام بتدريب منير على أداء ألحانه وألحان غيره النوبية، ثم بدآ في الاستعانة بكلمات معارفهما من الشعراء عبد الرحيم منصور وفؤاد حداد، وكانت البداية الحقيقية بانضمام الموسيقيّ هاني شنودة لهذه المجموعة فأضاف بألحانه وتوزيعاته طابعا مميزا، بل إنه جاء بكل أعضاء فرقته "المصريين" ليرددوا ويعزفوا أغاني الألبوم الأول لمنير "أمانة يا بحر" الذي فشل بشكل كبير.
محمد منير
عليّ صوتك بالغنا!
كان أهم ما يميز منير عن كل أبناء جيله أنه الوحيد الذي كان يحمل مشروعا غنائيا متكاملا، لم يأت إلى القاهرة ليبحث عن أعمال فنية لكنه كان يبحث عن جهة إنتاجية، بينما مشروعه الفني كان جاهزا مكتملا مثلما كان فريدا ومميزا، ويعتبر ألبوم "بنتولد" عام 1979 هو بداية انطلاقته الحقيقية .. وتم تصنيفه بعد ذلك بسنوات من ضمن أفضل الألبومات الموسيقية العربية والأفريقية في القرن العشرين، كما فازت أغنية "الليلة يا سمرة" في استفتاء الـ BBC لأفضل 50 أغنية أفريقية في القرن العشرين، عام 1982 كان منير على موعد في الوقوف أمام كاميرا المخرج العالمي يوسف شاهين الذي قدمه كممثل من خلال فيلم "حدوتة مصرية" وغنى منير في الفيلم مجموعة من الأغنيات التي صدرت في العام ذاته في ألبوم حمل اسم الفيلم، ثم أصدر ألبوم "اتكلمي" 1983، وفي عام 1985 قدم منير مسرحية "الشحاتين" مع الفنان سعيد صالح وسعاد نصر وصابرين، وكان منير على موعد للقاء ثان مع كاميرا يوسف شاهين حيث شارك في 1986 في فيلم "اليوم السادس" مع الراحلة داليدا، وشارك أيضا في العام نفسه في فيلم "الطوق والأسورة" مع شريهان للمخرج خيري بشارة، وفي العام ذاته صدر له ألبوم "بريء"، وفي 1987 قدم آخر ألبوماته مع شركته السابقة وهو "وسط الدايرة"، وشارك منير مع سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة عام 1988 في فيلم "يوم مر يوم حلو".
محمد منير
ثورة الملك!
منير هو الذى أطلق صرخة "كل المفروض .. مرفوض"، ولا يمكننا إسقاط ألبوم "الملك" من قائمة الأعمال الفنية المهمة له، فهذا الألبوم الذي صدر في 1988 هو الصرخة السياسية الأولى في تاريخ الوطن العربي، صرخة العدل والحرية ضد الاستبداد والظلم "طعن الخناجر ولا حكم الخسيس فيا"، وهذا الألبوم هو التعاون الأول بين محمد منير والشاعر الثائر أحمد فؤاد نجم "الفاجومي"، الذي كتب كلمات الألبوم بالكامل، ووضع ألحان الألبوم كاملا الموسيقار حمدي رؤوف، كما أن لهذا الألبوم أهمية خاصة لدى لمنير، فهذا الألبوم كان السبب في إطلاق لقب "الملك" عليه من النقاد والجماهير وهو اللقب الذي يصاحبه حتى وقتنا الحالي، وضم ألبوم "الملك" أغنيات مسرحية "الملك هو الملك" التي قدمت للمرة الأولى على المسرح عام 1988، وشارك منير في بطولتها، أيضا ألبوم "شيكولاتة" عام 1989 يعتبر من المحطات الفنية المهمة في حياة محمد منير خاصة وأنه الأول بعد انفصاله عن يحيى خليل بعد تعاون استمر 7 سنوات متصلة، كما شهد ظهور العديد من الأسماء الفنية اللامعة التي تعاون معها منير للمرة الأولى مثل الشاعرعبد الرحمن الأبنودي والموسيقار كمال الطويل، وفي عام 1990 قدم منير ألبوم "اسكندرية" وفيلمي "شباب على كف عفريت" و"اشتباه" .. أما عام 1992 فقدم فيه فيلما تليفزيونيا يحمل اسم "حكايات الغريب"، وألبوم "الطول واللون والحرية" وقام بتصوير أغنية "الطول واللون والحرية" بطريقة الفيديو كليب، ولم ينفصل منير عن السينما طوال مشواره حيث قدم عام 1993 فيلم "ليه يا هرم" للمخرج عمر عبد العزيز، عام 1994 قدم ألبوم "افتح قلبك" وصور منه أغنية "لو بطلنا نحلم نموت" بطريقة الفيديو كليب، بينما قدم في 1995 فيلم "البحث عن توت عنخ آمون"، وألبوم "ممكن"، ويكتفي منير في عام 1996 بتقديم ألبوم واحد وهو "من أول لمسة"، وكان "المصير" هو التعاون الثالث بين منير وشاهين، وانتج الفيلم عام 1997، وقدم منير أغاني الفيلم في ألبوم حمل اسم الفيلم ومن أهم أغنياته "علي صوتك"، وكان الألبوم الرابع عشر لمنير هو " الفرحة" عام 1999، ثم توالت ألبومات منير مثل "عشق البنات" و"الأرض .. السلام" الذى ضم الأغنية الشهيرة "مدد يا رسول الله" من توزيع الموسيقار الألماني "رومان بونكا"، وفاز محمد منير بسببها بجائزة مطرب السلام من شبكة CNN، كما أنه بعد حصوله على هذا اللقب، اهتمت مكتبة الكونجرس الأمريكي اهتماما خاصا به ووضعت اسمه ضمن قائمة أهم فنانين العالم مناقشة لقضايا مجتمعاتهم في أعمالهم، أيضا قدم ألبومات "قلبي مساكن شعبية" و"أحمر شفايف" و"امبارح كان عمري عشرين" و"طعم البيوت" و"يا أهل العرب والطرب".
السلم الخماسي!
اشتهر منير بموسيقاه التي يخلط فيها موسيقي الجاز بالسلم الخماسي النوبي، وكلمات أغانيه العميقة، وأسلوب أدائه ومظهره غير الملتزم بتقاليد الطرب والمطربين، إلي جانب أدائه التلقائي ولهجته المزيج بين القاهرية والأسوانية، كما أن ارتباطه بأشعار الصف الأول من شعراء العامية المصرية وقواميسهم المغايرة الخالية من النبرة الرومانسية وموسيقاه المنفصلة عن الطرب الكلاسيكي، كما أن له طريقة مميزة في إمساك الميكروفون في أثناء الغناء، وتميز منير بغوصه في الثقافات المختلفة ونشر التراث العربي، فلم يكتف بنشر التراث النوبي الذي تربى وكبر فيه، بل اعتبر منير التراث العربي بأكمله كنزا مدفونا لابد من فتح خزائنه، لذلك نرى في كل ألبوم له يقدم أغنية من التراث العربي. من هذه الأغاني: أغنية "حكمت الأقدار" من التراث الجزائري وأغنية "وسط الدايرة" من التراث السوداني، وأغنية "يالالي" من التراث الحلبي وأغنية "يا طير يا طاير" من التراث الأردني وأغنية "أنا قلبى مساكن شعبية" من التراث السوداني وأغنية "إمبارح كان عمري عشرين" من التراث الجزائري وأغنية "تحت الياسمينة" من التراث التونسي، وهو المطرب المصري الوحيد الذي حصل على الجائزه البلاتينية من شركه يونيفرسال عن أغنية "ياسمينا" التي حققت مبيعاتها اكتر من 750 ألف نسخة في أوروبا.
محمد منير
سر النجاح!
بعد نحو 500 أغنية و33 ألبوما و10 أفلام و3 مسلسلات ومئات الحفلات في مصر وأوروبا التى يصل عدد جمهور بعضها إلي 100 ألف شخص .. يقول منير: حرصت بمشواري على عدم تجاهل أي جيل أو عقل مستمع مهما كانت ثقافته أو جنسيته، كان لدي الإصرار على التمسك بالحلم بداية من "على قد ما بنعشق ننول" مرورا بأغانى"الفرحة .. وربك لما يريد .. وأخرج م البيبان .. والفرح شاطر … ولسه الاغانى ممكنة"، وأنا لا أستطيع أن أقدم ما أجرح به البيت المصري بموضوعات تافهة لاتحمل أى مضمون أو ملامح.. ولهذا أسعى أن أكون معاصرا جدا وشديد المصرية، وعشت وأعيش لايشغلنى شىء إلا الغناء، وقبل تقديم تجاربى به كنت أضع فى اعتباري أن الجمهور ليس حقل تجارب .. فالتجريب لايعنى أن تكون شديد الصفاقة .. وإنما أن تكون لديك كلمة حقيقية تؤمن بها .. قادرا على التمسك بها.. والدفاع عنها.
محمد منير
شرط المحبة الجسارة
منير يختار كلمات أغانيه ليس للإمتاع فقط، وإنما للتحفيز والحث على الأفضل والتفكير، لذلك يبدو ملحوظا أن كل أغنية من أغنياته تمثل حالة خاصة من الحب، حب الوطن والخير والنيل والحياة والبشر، والجيران، يغنى للوطن والحرية والحب والسلام، منير بذكاء فطري استطاع تطوير الموسيقى المصرية بشكل غير مسبوق في عصره، ونجح في التوازن بين الموسيقى الشرقية والغربية وذلك من خلال عدم تخليه عن جذوره النوبية، حيث إن نغمات أغانيه تأتي من على ضفاف النيل ممزوجة بأفكار موسيقي تتلاءم مع روح الغرب مثل بوب مارلي، ومايكل جاكسون، لذلك عمل منير على تجديد التراث النوبي ونقله للعالم الخارجي، مما جعله واحدا من الفنانين المصريين القلائل الذين تركوا بصمتهم في المجتمعات الغربية وبمنهجية لا ينافسه فيها أحد، وكما يقول "لا يوجد فن جيد بدون معاناة، لذلك أرفض دائما النجاح الجاهز في برامج المواهب التليفزيونية التي انتشرت مؤخرا، على الرغم من أنها تساعد الفنان في تقديم نفسه، ولكنني مقتنع أن الفن هو رحلة حياة كاملة، ولا بد أن تقابله الصعوبات خلال تلك الرحلة، وتقابله العثرات التي تطرحه أرضا فيقوم من جديد وينفض عن نفسه الغبار ليتابع المسيرة، وهو ما سيجعله يكتسب الخبرات اللازمة لمشواره الفني، وهو أمر طبيعي"، ومنير صنع أغاني تجارية، لكنه عمل على الموازنة بين الأمرين، بين حبه للغناء وبين السوق، ولكن له الكثير من الأغاني التي تعبر عن نشوة الغناء فقط، فنسمع أغنية "فين الحقيقة" ولكن بالتوزيع الأصلي لها، الذي ظهر في المسلسل التليفزيوني "اللسان المر" سنة 1976، كانت الأغنية هي تتر المسلسل، المسلسل بطولة أحمد زكي و مديحة حمدي، ثم بعد أكثر من 20 عاما على المسلسل، يعيد توزيع الأغنية لتظهر في ألبوم الفرحة، وهي من كلمات عبد الرحيم منصور وألحان عبد العظيم عويضة، ومن الأغنيات التي لم تأخذ حظها من الشهرة كذلك رغم روعتها "دي ليلة واحدة ما تكفيش" من فيلم "البحث عن توت عنخ أمون" عام 1995، وربما كثيرون لا يعرفون من الجيل الحالي أن أغنية "يا طير" التي اشتهرت في ألبوم "شيكولاتة" عام 1989كانت أصلا تتر مسلسل "طيور بلا أجنحة" في عام 1979، ولمنير أغاني نادرة جدا، أغاني مجهولة، لا تعلم من الملحن أو الكاتب أو تاريخ التسجيل، ومنها "كوبري وبحر"، كما أنه قدم تجارب مجنونة مع الراحل حسين الإمام مثل "مكرونة بالصلصة"، وطبعا أغنية "وسلام للعسكري" من فيلم "حكايات الغريب" عام 1992، فمن ينسي "كلنا هنا على نفس الملة.. فقرا إنما محناش قلة..كلنا عاشق كلنا مبتلي"، وكذلك "إيه يا بلاد يا غريبة" التي قدمها عام 1977 من كلمات سيد حجاب وألحان هاني شنودة، و"أتحدى لياليك" في عام 1987من كلمات جمال بخيت وألحان عبد العظيم عويضة.
محمد منير
اعتبرني بلال
في النصف الثاني من التسعينيات، صرّح المطرب محمد الحلو بأنه هو وهاني شاكر وعلي الحجار ومدحت صالح يشكلون نخبة الطرب الأصيل، رغم تأكيده أن محمد منير مطرب كبير له أسلوبه الخاص المختلف عن الجميع، بعد إدلائه بهذا التصريح، رن هاتف سيارة محمد الحلو ليجد على الطرف الآخر من المكالمة صوت منير الصارخ: "خلاص … إنتم الأربعة اللي ماسكين لواء الغناء العربي يعني؟ الخلفاء الراشدين؟ طب اعتبرني بلال يا أخي!"، وبمناسبة الحلو، في نهاية السبعينيات، قدم بليغ حمدي أغنية "أشكي لمين" للمطرب الصاعد وقتها محمد الحلو، أعجب محمد منير بالأغنية، رأى في الكلمات مساحة أكبر من التي يوفرها توزيع بليغ، فهذه الأغنية بالنسبة لمنير، كما قال في أحد البرامج: "هي إحساس ومعاناة وتجربة وانصهار مع الكلمة"، طلب منير من الحلو أن يستأذن بليغ لمنحه الأغنية، ووافق الأخير، وابتعد منير في نسخته عن التوزيع الشرقي، تخلى عن الكمان والآلات الشرقية، وذهب إلى موسيقيين يشبهونه بالعقلية ويشاطرونه شعور الغربة. كان الجيتار والبيانو والدرامز، ووراءهم الثلاثي عزيز الناصر وفتحي سلامة ويحيى خليل، قادرين على جعل الموسيقى تتفاعل أكثر مع الكلمات، لا أن تكون خلفية فقط لصوت المغني، اختفى الكورس الذي كان يصاحب الحلو، وجاء صوت منير منفردا وكأنه شكوى شخصية، ثم ترك لفرقة يحيى خليل إنهاء الأغنية، ونزلت الأغنية في ألبوم شبابيك عام ١٩٨١، اليوم، وبعد 44 عاما، لم يسمع الكثيرون الأغنية من محمد الحلو، بل لم تعلم غالبية الناس أنها أغنية الحلو من الأساس.
محمد منير
غنوتك وسط الجموع
التحق منير بكلية الفنون التطبيقية لكي يأتي إلى القاهرة ويحقق حلمه في عالم الغناء، أي اختيار آخر كان سيعني بقاءه في أي من جامعات جنوب الوادي، ولهذا كانت السنوات الأولى لمنير في القاهرة بمثابة دراسة عملية لشوارع القاهرة وتجمعاتها الثقافية وحكاياتها وناسها، ولقاء منير وعبد الرحيم منصور كان حجر الأساس في الرحلة، منصور اعتبر منير قضيته، الصوت الذي سيعبر به عن الناس، ويحكي هاني شنودة قائلا: "غنى منير في فرقة المصريين، خلال بعض الحفلات الأولى لنا، عندما أراد الظهور على المسرح لأول مرة وجدته يرتدي بدلة وكرافتة، قلت له مستحيل، هذا ليس أنت، إظهر بصورتك التي تشبه صوتك"، محمد منير برز مع بداية عصر الانفتاح أي مع بداية تغيير السياسات الاقتصادية في عهد أنور السادات من النموذج الاشتراكي إلى الرأسمالي والاقتصاد الحر، ظهر منير في حقبة ضبابية، شعر كثيرون خلالها بالغربة، فقد ضعفت المشاعر وحلت السياسات الاقتصادية البراجماتية وغلبت هوية "تاجر الشنطة"، كان منير يشبه الناس العاديين .. خاصة الملايين القادمين من الجنوب، كان معظم جمهوره من المعارضين ومثقفي الجامعات وشباب الأقاليم من الطبقة الوسطى، رأوا فيه تعبيرا عنهم وعن غضبهم وثورتهم عبر نوع جديد من الفن يمزج بين الأصالة المصرية وبين العالمية، قام بتقديم أغان كتبت للشيخ إمام، مثل: "يا اسكندرية، بلح ابريم، توت حاوي، يامه مواويل الهوى"، لكنه لم يحافظ على لحن أيٍ منها، وقدم ألحانا وتوزيعات جديدة، بدأ الناس يرون حالة جديدة وفريدة، كلمات تعكس تمردا وحرية ولا تتعلق بالحب أو الهجر، وتحمل معنى وطنيا وعاطفيا في آن واحد، وكما يقول الكاتب إبراهيم عيسى "لم يعهد الناس أحدا يغني للشجر والبيوت والأماكن. كانت أغانيه جزءا من تمرد جيل يبحث عن نفسه. وباتت قاعدة منير الجماهيرية تتوسع أكثر"، نقل مشاعر الترابط في "تعالى نلضم أسامينا" وبسلاسة عبّر عن تشابه بيوت المصريين في "طعم البيوت" وجمعهم على أغنية "بكار" وقت الإفطار وأغنية "عشق البنات" في المناسبات الاجتماعية مثل الأفراح وأعياد الميلاد، كان يشبههم أيضا في مأساته، وهو الذي توفي شقيقه الأوسط ورفيق دربه فاروق والذي قدمه إلى العالم، وأبكانا منير في رثائه بـ"غنوتك وسط الجموع، تهز قلب الليل فرح، تداوي قلبي اللي انجرح"، وقبل ذلك عام 2006، حين توفي شقيقه الأكبر، وغنى "إزاي نسيب حزننا يرمي العسل على المر".
محمد منير
ولسه بيجرى ويعافر
طوال 50 عاما ظل منير كما هو .. النوبي صاحب الشعر المجعد والذي يرتدى "بنطلون جينز" وقميصا ويمسك الميكروفون بطريقة مميزه، لا يتوقف نهائيا عن الحلم والتجديد ومواكبة التطور، استحق أن يلقبه جمهوره بـ"الملك" ليس تقليدا لأوصاف أخرى مثل الهضبة والجبل والزعيم وغيرها.. لكنه بالفعل كان حاكما لمملكة فنية لا يصارعه على عرشها أحد، في مكانة مختلفة خارج المنافسة، منير اكتسب ثقافته ليس فقط من بيئته وشغفه.. لكنه تعلم الكثير في رحلته بكلية الفنون التطبيقية، وأيضا من كتيبة الموهوبين الكبار الذين أحاطوا به، فلكي تطلب من مطرب حاليا أن يصبح مثل منير .. لابد أن تأتي له أولا بالمشروع المختلف وخامة الصوت الفريدة بينما يقف حوله أحمد منيب وعبد الرحيم منصور وعبد الرحمن الأبنودي وهاني شنودة وفتحى سلامة ويحيي خليل وكمال الطويل وكوثر مصطفى ويوسف شاهين.. منير ظهر بعد رحيل الثلاثي الكبير أم كلثوم وعبد الحليم وفريد الأطرش وبداية عصر غنائي مختلف، وبدأت معه أصوات قوية متمثلة في هاني شاكر ومحمد الحلو وعلي الحجار ومن بعدهم عمر فتحي ومدحت صالح ومحمد ثروت .. لكنه كان "الألفة" والغريب وغير القابل للتكرار، ثم ظهر عمرو دياب ومحمد فؤاد ومن ورائهما جيش من "المؤديين" أصحاب الجماهيرية الكبيرة والحنجرة التي تقدم مفهوما مختلفا لمعنى "الطرب" .. لكن منير كان في مكانة غير قابلة للاقتراب منها، وحتي مؤخرا عندما عشنا عصر تامر حسني وأحمد سعد ومحمد حماقي .. كان أكبر نجاحهم علي مسافة ضوئية من محمد منير، والسر ببساطة أن منير طوال 50 عاما كان نسخة أصلية مستحيل تقليدها، حتى ألبوماته التي لم تحقق نجاحا كبيرا مثل "علموني عنيكي" حاليا يعتبرونه ضمن كلاسيكيات الغناء، منير كان أول من يجبر دار الأوبرا علي استقبال مطرب لا يرتدي الملابس الرسمية .. فالمهم ماذا يقوله وليس ما يرتديه، ووصل اختلافه لدرجة أنه عندما قام بغناء "أنا بعشق البحر" لنجاة و"حكايتي مع الزمان" لوردة و"آه يا اسمراني" لشادية و"شيء من بعيد ناداني" لـ ليلى جمال اعتقد كثيرون من الجيل الصغير أنها أغنياته ليس جهلا منهم .. لكن لأن بصمة منير جعلت منها أغنيات مختلفة عن الأصل، حتى بعدما خانته صحته مؤخرا وبدأ يظهر متحاملا على عكاز علي المسرح أو مستندا على مقعد .. مازال كما هو الشاب النوبي الذي يجري بصوته لفضاءات لم يصلها غيره، وخلاصة القصة.. أن منير مازال صوتا للناس "المكبوتة" .. وراويا صادقا لـ"الحدوتة المصرية".