على الرغم من أن التجارة الأمريكية مع الإمبراطورية العثمانية بدأت في الازدياد بعد عام 1800م، إلا أنها لم تستحق إدراجًا منفصلًا في سجلات وزارة الخزانة حتى عام 1803م، وذلك بعد الانتصار الأمريكي في المتوسط ضد طرابلس، والذي انتهى في فبراير 1805م، فأتاح ذلك الفرصة للسفن الأمريكية – المحايدة في الحروب النابليونية - لزيادة أنشطتها في شرق البحر المتوسط.
موضوعات مقترحة
ذكر الوكيل القنصلي للولايات المتحدة في سميرنا (ويلكنسون) أنّ هناك زيادة في عدد السفن الأمريكية التي رست في الميناء من 6 سفن عام 1805م، إلى 4 سفن في النصف الأول فقط من عام 1806م، ففي عام 1805م وبعد رحيل السفينة بنسلفانيا (في مارس)، وصلت في نوفمبر السفينة إنتان من بالتيمور إلى ميناء سميرنا محملة بـ حمولة من السكر، والبُن، والفلفل، ثم أبحرت إلى ميناء كانتون في الصين بحمولة من الأفيون بلغ مقدارها 46 صندوقًا كبيرًا، و51 صندوق من الحجم الصغير، إضافة إلى صندوقين لقائد السفينة (جرانت).
حرب الأفيون
في أوائل 1806م، أبحرت السفينة سبارتان بالتيمور، من إزمير إلى تريستا، عائدة إلى موطنها بحمولة من الأفيون تُقدر بـ 4 صناديق صغيرة جدًا من الأفيون، 6 من الحجم الكبير، واثنان من الحجم المتوسط، ثم السفينة هازارد من فيلادلفيا التي أبحرت من سميرنا إلى موطنها عن طريق ليجهورن محملة بثلاث صناديق صغيرة جدا من الأفيون إضافة إلى سلع أخرى، تلا ذلك عدة سفن تجارية وصلت من كل من فلادلفيا وبالتيمور، وبوسطن إلى سميرنا، وعادت ببضاعة مختلفة على رأسها الأفيون.
وفي غضون أقل من عشر سنوات، أنشأت التجارة الأمريكية في الإمبراطورية العثمانية نمطًا، سيستمر جزءٌ منه - خاصة في الواردات الأمريكية – لسنواتٍ عديدة، حيث كانت السفن الأميركية تجلب في الأغلب بضائع استعمارية، لتعود من سميرنا بسلعٍ من بينها التين والزبيب والأفيون.
سرعان ما أصبح الأفيون العنصر الأكثر أهمية ويرجع ذلك إلى أنشطة شركة بيركنز في بوسطن، والتي تخصصت في نقل الأفيون من إزمير إلى كانتون، فقد زودت كذلك التجار الأمريكيين بسلعة من شأنها أن تحل في نهاية المطاف محل دفع ثمن بعض السلع الأخرى الواردة من الصين وهي الشاي والحرير، الأمر الذي جعل هؤلاء التجار يقومون بتوفير العملة النقدية من الدولارات الإسبانية الفضية.
إضافة إلى سياسات شركة الهند الشرقية التي منعت سفن الشركة من حمل السفن البريطانية للأفيون، وتقييد ملاحتها بين أوروبا والصين، أدى ذلك إلى تسريع التجارة الأمريكية في الأفيون العثماني، وهي عوامل ساعدت – فيما بعد – على احتكار الأمريكيين لتجارته في الصين.
تعاطي الشباب الصيني للأفيون
خلال السنوات الأولى، كان يتم شحن الأفيون العثماني بشكل عام إلى الصين عن طريق السفن الأمريكية مباشرة، ولكن بعد عام 1810م، تم شحن الأفيون إلى الموانئ الأمريكية ثم نقله إلى الصين - بعد تفريغ الجزء المخصص للسوق الأمريكية - أو نقله في موانئ البحر المتوسط أو في البحر بالقرب من جبل طارق إلى سفن مجهزة خصيصًا للتجارة الصينية.
في عام 1812م، ومع اقتراب نهاية الحرب بين الولايات المتحدة وبريطانيا، قامت السفينة جاكوب جونز لصاحبها توماس بيركنز – وبإيعاز منه - بسرقة حمولة من الأفيون والذهب من سفينة بريطانية –على سواحل بورنيو (ماليزيا)، وعادت بالشحنة إلى بوسطن – حتى تتجنب الدعاوي القضائية من بريطانيا – وبعد تسجيل الشحنة في الولايات المتحدة عادت بها مرة أخرى إلى كانتون؛ لبيع الأفيون المُهرب.
تحريم تجارة الأفيون في الصين 1817م وموقف بيركنز
أبحرت سفينة بالتيمور "واباش" إلى الصين في مايو 1817م، وعلى متنها شحنة من المسكوكات والأفيون، وبينما كانت السفينة ترقد في طريق ماكاو، اجتاحها قراصنة صينيون قتلوا بعضًا من أفراد الطاقم وسلبوا السفينة ما قيمته سبعة آلاف دولار، وخمسة وثلاثين صندوقًا من الأفيون.
بحرص شديد، لفت القنصل الأمريكي ويلكوكس نظر السلطات الصينية لما حدث؛ وذلك بسبب وجود بضاعة مهربة، وبالفعل تمكنت السلطات من القبض على القراصنة بعد شهر من الحادث، إلا أنهم وجدوا معهم بعضًا من الأفيون لم يكونوا قد باعوه كله، الأمر الذي أثار اشمئزاز نائب السلطان الصيني، فقام على إثر ذلك الصينيون بإصدار المراسيم التي تُحرم المتاجرة في الأفيون وتشديد العقوبات لمن يخالف ذلك
لكن بيركنز لم يهتم بأمر هذه العقوبات، بل أنه رأى أنّ المنافسة على جلب هذه البضاعة في سميرنا ستقل حدتها فيما بعد، وهو أمر في صالح شركته التي أسسها في كانتون، وقام بمراسلة وكيله في ليجهورن بداية عام 1818م، حيث قال له: من الممكن أنْ تنتظر السفن قليلاً في البحر حتى تتاح الفرصة لتسليم الحمولة يدًا بيد إلى وكيلنا في كانتون.
الامبراطور لين زيوكس الذي أعلن الحرب على بريطانيا 1839م
في 1819م، تم شحن 40 صندوق من سميرنا إلى بوسطن؛ ليُعاد شحنهم إلى كانتون في الصين، ثم 60 صندوقًا آخر، وفي نهاية الموسم قُدرت الشحنات التي هربت من الأفيون العثماني إلى كانتون بحوالي 180 بيكيول، والبيكيول هو قدر ما يستطيع الرجل حمله على كتفه، وهي وحدة وزن أسيوية تقليدية تُدعى "تام"، وبلغ سعر الرطل من الأفيون عند بيعه قبل عام 1820م من 3.5 – 4 دولار.
كان هناك نوعان من الأفيون يتم زراعتهما في الدولة العثمانية، الأفيون الخاص بالتدخين في منطقتي أنقرة وسيواس، وكلاهما على هضبة الأناضول، أما النوع الثاني من الأفيون فكان يُزرع للاستخدام الطبي، لذا كان غنيًا بالمورفين، وبالتالي ذو قيمة كبيرة، وكانت مراكز زراعته في بورصة وأيدين وقونية وأفيون قره حصار (وهي محافظة عثمانية تقع في منطقة إيجة).
توماس هاسيندا بيركنز صاحب شركة بيركنز المسيطرة على تجارة الأفيون العثماني
الحرب اليونانية وموقف الولايات المتحدة منها
في فبراير 1823م، سلم أندرياس لوريوتيس، ممثل الحكومة الثورية اليونانية، إلى ريتشارد راش، الوزير الأمريكي المفوض في لندن، خطابًا يطلب المساعدة والاعتراف الدبلوماسي من الحكومة الأمريكية، بعدها بستة أشهر وتحديدًا في 15 أغسطس 1823م، ناقش الرئيس مونرو وحكومته مطلب اليونانيين مع وزيريّ الحربية والخزانة؛ ربما بسبب شعبية القضية اليونانية وحقيقة أنها ستكون داعمة لطموحاته الرئاسية، لكن كان هذا يعني توريط الولايات المتحدة في الحرب، الأمر الذي رفضه جون كوينسي آدامز وزير الخارجية في ولاية مونرو ثم رئيس الولايات المتحدة بعد وفاته؛ وجاء رده على رسالة لوريوتيس بأنّ الولايات المتحدة تدعو بأطيب التمنيات للثورة اليونانية، لكن الولايات المتحدة لا يمكن أنْ تشارك في الحرب مع اليونانيين؛ بسبب اتخاذها موقف الحياد، وهذا مبدأ راسخ في سياستها الخارجية لا يمكن أنْ تتخلى عنه – هذا كان السبب المعلن – أما السبب الحقيقي لعدم مساندة الولايات المتحدة للثورة في اليونان كان (الأفيون).
قام تجار بوسطن الأثرياء (وعلى رأسهم بيركنز) بالضغط على مسئولي الحكومة في الولايات المتحدة؛ حتى لا تقوم البلاد بالوقوف مع الثورة اليونانية ضد الدولة العثمانية؛ لأنّ ذلك معناه القضاء على تجارتهم في الأفيون بشكل نهائي، خاصة بعدما نما إلى علمهم بأن هناك احتمالية لوقوف الحكومة الأمريكية مع الثورة؛ لذا غيرت الولايات المتحدة موقفها سريعًا حتى لا تضر بمصالح هؤلاء التجار ذوي النفوذ بتجارتهم في الأفيون العثماني، بل قامت كذلك بإرسال أسطول حربي إلى البحر المتوسط لحماية مصالح بيركنز في سميرنا.
ميناء سميرنا (ازمير) العثماني أحد أهم الوجهات المتاجرة في الأفيون
من يناير 1824 إلى يوليو 1825م، تم إرسال شحنات تصل إلى 177.837 رطلا – أي حوالي 1334 بيكيول إلى كانتون في الصين، على متن ست سفن أمريكية من سميرنا وتحديدًا من البيت التجاري الذي أنشأه بيركنز هناك وجعل على إدارته ابن شقيقه چون كوشينغ، وفي أغسطس 1825م، كان لديه 1039 بيكيول أرسل منها للولايات المتحدة 640 بيكيول؛ لبيعها في الصين، لذا يمكن القول أنّ مجموعة بيركنز في بوسطن، قد أمدت كانتون بحوالي 60% من الأفيون العثماني بمفردها.
أثرت معاهدة 1830م، على حجم تجارة الولايات المتحدة مع الإمبراطورية العثمانية؛ فقد زادت التجارة الأمريكية بشكل مطرد طوال القرن التاسع عشر، وخاصة في سميرنا، ففي عام 1830م، رست 32 سفينة أمريكية في ذلك الميناء وجلبت معظم البضائع: البن، والسكر، والفلفل، والروم، والشموع، والدقيق، وحملت هذه السفن شحنات من الأفيون تقدر بـ 782 صندوقًا، وبعض السلع الأخرى، وقدرت قيمة إجمالي واردات الولايات المتحدة من جميع الولايات العثمانية بمبلغ 417,392 دولارًا ، منها 132,222 دولارًا ، قيمة الأفيون أي بنسبة (31.67%) من قيمة الواردات الكلية.
في 1832م، تم مضاعفة قيمة الواردات لتصل إلى 923.629 دولارا، كان نصيب الأفيون منها 234.473 دولارا، بنسبة 25.38% من قيمة الواردات الكلية.
لوحة تصور سفن بيركنز في ميناء لينتن الصيني وعلى متنها حمولات من الأفيون العثماني المهرب عام 1824م
معاهدة بالطة ليمان 1838م وموقفها من تجارة الأفيون
بالنسبة للتجارة الأمريكية المتنامية في الأسواق العثمانية، كان الجانب الأكثر أهمية في اتفاقية 1838م، هو إلغاء احتكار الحكومة العثمانية على الأفيون، صحيح أنّ التجار الأمريكيين استمروا في نقل الأفيون بكميات كبيرة من سميرنا إلى الصين خلال العقد الماضي عندما كان الإنتاج تحت الاحتكار، لكنهم كانوا يضطرون إلى المساومة بشدة في ظل هذا النظام، خاصة فيما يتعلق بالكمية التي يريدون شراءها، مع المسؤول العثماني المسؤول في سميرنا.
لذا مكنت هذه الاتفاقية التجار الأمريكيين الشراء من مراكز الإنتاج في الداخل، ولم يكن المزارعون في وضع يسمح لهم بالمساومة معهم سواء بالسعر أو الكمية: في عام 1838، على سبيل المثال، شكلت واردات الأفيون الأمريكية البالغة 64.969 دولارًا 21.9 بالمائة من إجمالي الواردات الأمريكية من الدولة العثمانية، وفي العام التالي للاتفاقية بلغت الواردات من الأفيون، 191,764 دولارًا أمريكيًا، وشكلت 30.5 بالمائة من إجمالي وارداتها البالغة 629,190 دولارًا أمريكيًا، وفي عام 1841م، احتل الأفيون المركز الأول في قائمة الواردات الأمريكية من الإمبراطورية بقيمة 205,933 دولارًا أمريكيًا، والتي بلغ مجموعها 614,872,83 دولارًا أمريكيًا.
د. يسرا محمد سلامة
عضو اتحاد المؤرخين العرب
د. يسرا محمد سلامة