إذا أردت أن ترى العجب العجاب، فانظر إلى أولئك الذين يرتدون عباءة "المفكرين" و"العلماء"، الذين يخصصون حياتهم لنشر سردية واحدة: أن الأمة جريحة لا تشفى، وأن المسلمين أضحوكة التاريخ، وأن الهوان قدرنا المحتوم! ياله من "علم" عجيب.. كأنما اكتشفوا في كتب التراث أن اليأس فضيلة، والخذلان فريضة!
أليس عجيبًا أن يطلق على من يميتون الأمل لقب "مثقفين"؟! فما الثقافة التي يحملونها إلا ثقافة الهزيمة! ينتقدون الاستعمار ليل نهار، ثم يصبون الزيت على ناره بخطابهم المائع. يتغنون بعزة الإسلام، ثم يصرخون في كل منبر: "نحن أمة منكسرة"! كأنما نسوا قوله تعالى: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلاتَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران:١٣٩). فهل إيمانهم بالآية انتقائي؟ أم أن "الوعي النقدي" يلزمهم تأويلها على أنها نكتة سوداء؟
لنطرح سؤالاً بريئاً: ماذا قدم هؤلاء "المتنورون" للأمة غيرتحويل قضاياها إلى مادة للسخرية في أروقة النخب؟ ينكرون على العامة تفاؤلهم البسيط، وينعتون صمودهم بالسذاجة، وكأنما النجاح الوحيد الذي حققوه هو إتقان فن لعن الظلام دون إشعال شمعة! أما الأعجب فهو استعجالهم نصر الأمة كأنه طل في الصباح، بينما تاريخ الأمم يبنى عبر قرون. أليس في تناقضهم معجزة؟!
يصرخون: "نحن نكشف العيوب لِنصلح!"، لكنهم كالطبيب الذي يفتح جرح المريض ويتركه ينزف قائلاً: "العلاج مستحيل!"، ثم يتساءل: لماذا يموت الناس؟! وخطابهم هذا هو الهدية المغلفة بورق النوايا التي ينتظرها الأعداء، فاليأس أخطر من السلاح؛ لأنه يقتل الإرادة قبل أن تولد. وكما قال ابن خلدون: "الهزيمة النفسية أصل الانهزام العسكري".
يزعمون أنهم يخافون الله، فكيف يخافون الله ويفشلون عباده؟! أين هم من حديث: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف» (صحيح مسلم)؟ إن التقوى الحقيقية ليست في اجترار المآسي، بل في تحويلها إلى وقود للنهوض.
أما أن ترفع يديك إلى السماء بالدعاء، وتنشرعلى الأرض ثقافة الاستسلام، فهذه شيزوفرينيا فكرية تباع باسم "الواقعية"!
الحقيقة التي يفر منها هؤلاء هي أن الأمة – بعيوبها – مازالت تنتج المجاهدين، والعلماء، والمخترعين، والشباب الذين يرفضون أن يكونوا نسخًا من "مثقفي اليأس". فليستمتعوا بمرثياتهم، وليَكتبوا مقالاتهم المعطرة بادعاء العمق، أما التاريخ فسيتذكر أن الأمم تُبنى بإرادة الأمل، لا ببلاغة اليأس.
هل يقرأ هؤلاء "المفكرون" تاريخ الأمة أم أنهم اختاروا فصلَ "الانهيار" فقط؟! ليتذكروا أن أجدادنا صنعوا حضارة هزت العالم بينما كانت أوروبا تغط في ظلام العصور الوسطى! فهل كان ابن الهيثم يبكي على ضعف الأمة وهو يخترع الكاميرا البدائية؟ أم أن ابن سينا كان يسخر من المسلمين وهو يكتب "القانون في الطب" الذي ظل مرجعًا لأوروبا قرونًا ؟!
اليأس اليوم ليس "وعيًا" بل انتحار ثقافي.. كمن يقطع جذور شجرةٍ عتيقة ويصرخ: "انظروا، إنها ميتة!" يقولون لنا: "النقد حرية!".. فنرد: نعم، لكن الحرية التي تذبح الأمل ليست حرية بل فوضى! الفارق بين النقدين كالفارق بين جراحٍ ينقذ مريضاً وآخر يغرس سكّينا في ظهره!
النقد البناء: "لدينا مشاكل، ولدينا موارد لحلها" أما النقد الهدام: "كل شيء منته، فاستسلموا!"
أليس غريبًا أن يشبه خطابهم خطاب المستشرقين الجدد الذين يروجون أن الإسلام "عقبة أمام التقدم"؟!
من المستفيد؟ سؤال يقلقهم! عندما يكرر "المثقف" ذات السردية التي تروجها منصات غربية تمولها جهات تعادي الإسلام، يصبح كالغراب الذي يقلد مشية الببغاء! هل لاحظتم أن هجومهم المركز على "هوان الأمة" يتصاعد كلما حقق المسلمون إنجازًا؟!
انتصار فلسطيني هنا.. اختراع علمي هناك.. ويهرعون لطمسه بـ "لكننا فاشلون!" كأنما مهمتهم إبقاء الأمة في غرفة الإنعاش النفسي!
عقدة النخبة..!
يرون أنفسهم حراس "الحقيقة المطلقة"، فيتعاملون مع العامة كقطيعٍ جاهل! لكنهم نسوا أن النبي ﷺ – وهو أعظم مصلح – خاطب الناس بلغة الواقع والأمل: «بُعثت بالحنيفية السمحة» (صحيح البخاري).
أما هم فيرفعون شعار: "أنا أصدقُ القول.. وإن أهلكَ الجميع!" فهل هذه "تقوى" أم غرور مغطى بمساحيق الفكر؟!
الأمل كفريضة شرعية.. لماذا ننسى؟
يا ترى، كم مرة قرأوا قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (الشرح:٦)؟
في الإسلام، الأمل ليس شعورًا عابرًا، بل عبادة وجهاد: - السيدة هاجر تركض بين الصفا والمروة رغم اليأس الظاهر.. فانفجر ماء زمزم! - الصحابة في غزوة الأحزاب يقولون: "متى نصر الله؟".. فينزل القرآن: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ وُقِعَ بِهِمْ﴾ (الأحزاب:١٠).
فهل يعقل أن يكون اليأس "فكرًا" والأمل "سذاجةً"؟! هكذا تقتل الأمم.. ليس بالسلاح بل بالكلمة! التاريخ يعلمنا: - الأندلس سقطت حين قالوا أن "التسليم" حكمة! - المغول انتصروا ليس فقط بالسيف، بل ببث الرعب في النفوس أولاً!
اليوم، أعداؤنا لا يحتاجون إلى غزو عسكري، فـ"مثقفو الداخل" يكفونهم المؤنة!
يكفي أن تعلن أن الهزيمة ثقافة، ليصبح الاستسلام مصيراً!
الحل للخروج من دائرة اليأس إلى فضاء الفعل. لنكن صرحاء: الأمة ليست معصومة، لكنها أيضا ليست جثة هامدة! البديل ليس التطبيل الأعمى، بل النقد الحامل رؤية:
1. نقد يضع الحلول في قلب التشخيص: كالطبيب الذي يقول: "المرض خطير، لكن هذه الأدوية شفاء بإذن الله."
2. نقد يرفع المعنويات قبل هدمها: كما علمنا عمر بن الخطاب: "لا تنزعوا روح الجهاد من صدور الناس!"
3. نقد يربط الماضي بالحاضر: "لدينا تراث من النهضة.. فلنستلهمه لا أن نحوله إلى متحف!" لنكن تلاميذ التاريخ.. لا ضحاياه!
هؤلاء "المثقفون" يبيعون اليأس كأنه ذكاء، والانهزام كأنها واقعية.. لكن القرآن الكريم يصرخ فينا: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾ (الحشر:١٩).
فليعلموا أن الأمة التي أنجبت صلاح الدين وابن رشد ومحمد عبده.. قادرة على أن تلد من جديد. أما هم، فإما أن يصلحوا أقلامهم.. أو أن يتنحوا ليفسحوا المجال لمن يبني بدماء القلب لا بحبر السواد!
لأن العالم بلا أمل كجسد بلا روح، والمثقف بلا رؤية كسفينة بلا شراع.. فإما أن تبحر نحو الأفق، أو تغرق في مستنقع اليأس!
[email protected]