حركت أحداث غزة وحرب الإبادة التي تشنها إسرائيل هناك مشاعر شتى، وهي إن لم تحرك هذه المشاعر يكون "الموت الزؤام" نصف شعار المظاهرات المصرية إبان الاحتلال البريطاني، لكننا حصلنا على "الاستقلال" أولًا ثم "الموت" في النهاية.
ويتردد في أوساط الرأي العام ما العمل وما المصير؟ إسرائيل لا تأبه لأحد، والولايات المتحدة تفعل ما تريد، والأزمة الفعلية أن الولايات المتحدة يزداد انحيازها لإسرائيل مع الوقت حتى وصلنا إلى الانحياز الكامل والشامل والصريح، لدرجة إطلاق اليد في القتل والتدمير، وإدانة من يدين إسرائيل. وكأن واشنطن بديمقراطييها وجمهورييها تعلن أنها ستحارب من يحاربنا وستحارب من يفكر في حرب إسرائيل. ما العمل؟
يسأل الرأي العام ببؤس وذعر حقيقيين، وأحد الأفكار التي سمعتها، تتطرق إلى أحاديث حول الوحدة العربية. وهي فكرة جاذبة منذ تبلورت أفكار الحرية والوطن والعروبة، مع بواكير التحرر من الاستعمار.
وقامت دول عربية بمساعدة شعوب عربية على عملية التحرر بالمال والسلاح والمقرات والأفراد كثيرًا في وقائع مشهودة تاريخية.
إذن الوحدة العربية تأتي كأحد الحلول، لكي نتجمع ونساعد فلسطين ونرفع الظلم عن الشعب الفلسطيني. ولكن البعض يرى في التجارب الوحدوية العربية السابقة خيبات تتحاكى بها الأجيال، وتكرارها سيكون مؤسفًا. لكن العرب رغم ذلك يستطيعون أن يكونوا قوة مؤثرة، من دون إعلان حرب مشابه لما جرى سنة 1948 وخلف النكبة الكبرى. وأعترف أن تفصيلة صغيرة في مراسم زيارة ماكرون الأخيرة لمصر، وفي موازاتها عملية طرد السفير الإسرائيلي في إثيوبيا من اجتماعات الاتحاد الإفريقي، حركتا فكرة قديمة كانت مطروحة منذ زمن تأسيس جامعة الدول العربية. لم أتخيل نفسي يومًا في موقف سلبي من الجامعة، أو منساقًا وراء مهاجميها ومنتقديها والمطالبين بإغلاقها. وكنت دائمًا ما أعتبرها الإطار الوحيد والقابل للحياة والذي بوسعه جمع العرب حتى ولو كانوا مختلفين.
وبرهنت إداراتها المتعاقبة على هذا الدور الحيوي من عبدالرحمن عزام إلى أحمد أبوالغيط مرورًا بعبد الخالق حسونة ومحمود رياض والشاذلي القليبي وعصمت عبدالمجيد وعمرو موسى ونبيل العربي.
وفي المؤتمر الصحفي للرئيسين السيسي وماكرون خلفهما بالضبط، وجدت ثلاث رايات: العلم المصري، والعلم الفرنسي، وعلم الاتحاد الأوروبي. ما يفيد بأن ما سيتم إعلانه في هذه القاعة من قبل الرئيس ماكرون هو موقف فرنسي أوروبي. ولم أجد بطبيعة الحال علم جامعة الدول العربية. رغم أن ما تعبر عنه القاهرة خصوصًا وتتحرك من خلاله لإنقاذ غزة والشعب الفلسطيني في الحرب الدامية في غزة يجد صدى في كل عاصمة عربية رسميًا وشعبيًا.
أما طرد السفير الإسرائيلي في إثيوبيا من اجتماع يحيي ذكرى الإبادة الجماعية في رواندا، ولأن بلده تحتل الأراضي الفلسطينية. لنلاحظ أننا نتحدث عن "الاتحاد" الأوروبي و"الاتحاد" الإفريقي ولم يكن اسمهما كذلك في بداية التأسيس، كانت المجموعة الأوروبية للفحم والصلب، ثم أصبحت "الاتحاد الأوروبي" اعتبارًا من منتصف الثمانينيات، وكانت منظمة الوحدة الإفريقية، ثم أصبح "الاتحاد الإفريقي" اعتبارًا من سنة 2002. لماذا لا تتحول جامعة الدول العربية إلى الاتحاد العربي؟ هذا التحول ليس في اللافتة فقط، وإنما في الدور والوظيفة أيضًا.
وأعرف أن بالجامعة مؤسسات وإدارات تستطيع ترجمة هذا التحول إلى عمل فاعل ونافذ ينفي عنا دولنا الإقليمية والانعزالية. تستطيع أمانة الجامعة وضع قواعد لهذا العمل، يمكن من خلالها أن تنفرد دولة من دول الاتحاد بموقف، مثلما فعلت المجر أخيرًا وانسحبت من نظام روما الأساسي لكي تتمكن من استقبال رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو المطلوب جنائيًا أمام محكمة العدل الدولية.
لقد بات لدينا اعتبارًا من يوم 22 مارس سنة 1945 جامعة دول عربية (7 دول فقط)، وهو تاريخ تحتفل به الجامعة سنويًا. وقبل هذا التاريخ أو في النصف الأول من الأربعينيات جرت اجتماعات عدة دعا إليها رئيس الحكومة المصرية مصطفى النحاس باشا، لبحث إنشاء كيان يوثق علاقات الدول العربية المستقلة.
وجرى طرح أفكار حول وحدة مناطقية، كالهلال الخصيب، وسوريا، أو وحدة شاملة تضم الجميع. فكرنا في اتحاد فيدرالي، كما فكرنا في اتحاد تعاون وتشاور. وتم الاستقرار على الاقتراح الأخير، وبدأ البحث في اسم مناسب. هل هو التحالف العربي أم الاتحاد العربي؟ ثم وافق الجميع على اقتراح الوفد المصري، بتسميته جامعة الدول العربية، وتم الاتفاق على "بروتوكول" الإسكندرية، ثم التوصل إلى "ميثاق" الجامعة الذي تم التوقيع عليه من الدول الأعضاء في 22 مارس.
كل هذا لا بأس به أبدًا.. ولا يجوز لأحد نقضه كبناء، لن نستطيع أن نقيمه ثانية، أما تغيير الاسم والصفة والدور يمكن أن يؤدي بنا إلى اتحاد عربي له دور فاعل ووزن أكبر، وقطعًا لن يوقف المذابح والإبادة في فلسطين فور تشكيله إنما قد يطور العمل العربي المشترك. ولا أعرف رغم علاقاتي كصحفي بالجامعة وحضوري مؤتمرات قمة كثيرة إن كانت في الجامعة لجنة دائمة للتطوير مثلًا..
لذلك أتمنى أن تبحث قمة بغداد في مايو المقبل رغم سخونة القضايا ومأساوية الأوضاع العربية، فكرة تطوير الجامعة وإعطائها دفعة جديدة وإعطاء الرأي العام العربي نفحة أمل.