فرنسا والتعليم المصري

9-4-2025 | 15:31

رغم أن المسافة بين بيت السناري بحارة مونج بالسيدة زينب، حيث مقر الحملة العلمية الفرنسية المصاحبة لبونابرت، وبين جامعة القاهرة التي تحدث تحت قبتها التاريخية الرئيس الفرنسي ماكرون مؤخرًا مسافة قليلة نسبيًا في عدد الكيلومترات، ويمكن أن تقطعها في أقل من ساعة زمن مشيًا على الأقدام، إلا أن نتائجها في عمر الزمن أعمق كثيرًا.

فبعد أن انتهى الغزو العسكري للحملة الفرنسية تنبهت مصر إلى آثارها العلمية، وبدأت رحلة الحداثة في مدنية التعليم بعدها مباشرة أي منذ قرنين من الزمان، وبالتعاون مع فرنسا كذلك في بناء منارات العلم فبدأت بالمدارس العليا مثل المهندسخانة أولًا بالقلعة ثم طب القصر العيني وتضمهم لاحقًا جامعة القاهرة في رحابها بعد قرن تقريبًا من توطينهم بمصر المحروسة ليتغير وجه مصر الحديث بالتعليم.

فصاحبة أعرق حضارة في التاريخ وإليها يعود كل شيء كما نقل عن شامبليون، لتصبح الآن أيضًا من أقدم وأعرق دول المنطقة والقارة الإفريقية عبر التعليم الحديث، فإنشاء جامعة القاهرة قد تحمست له النخبة التعليمية المصرية التي تكونت من منابع الثقافة الفرنسية الحديثة، ومثلما حدث في العصر القديم وانتقلت الثقافة والفكر من مصر إلى الإغريق والرومان، ثم أوروبا فالحضارات والثقافات عملية تبادلية وتراكمية.

وجاء خطاب الرئيس الفرنسي بجامعة القاهرة بعناوين واضحة وتحمل ضمنيًا ملاحظات على سياسات إدارة العولمة وغلق الحدود وطرد المهاجرين رغم أنهم هم مخترعو هذه الأدوات والمصطلحات في تناقض ومفارقة واضحة.

كما تضمن خطابه بعض الملامح التعليمية والكلمات ذات الإرث الثقافي والتعليمي، وبه من مضمون الفلسفة أيضًا ربما بحكم الأصول الدراسية له بالفلسفة، والتي من المهم إلقاء الضوء على هذه القضايا الفلسفية، وهي قضية الإعلاء لمفهوم رأس المال البشري أو التنمية الإنسانية وهو مفهوم أصبح مهمًا وركيزة أساسية في النظم الفكرية الحديثة لاسيما في فرنسا، وذلك لمواجهة آثار التعليم الآلي والبرجماتي والاعتماد على قيم التقليد واستهلاك إنتاج الآخرين، لاسيما أدوات العولمة التي خصها في خطابه بتحفظات حول "هستريا وسائل التواصل الاجتماعي" إن جاز لي الإضافة، ورغم أن هذه الأدوات تمثل أدوات العصر ويستخدمها الجميع حكامًا ومحكومين؛ أي أننا لا نستطيع أن نجرمها أو نمنعها، ولكن علينا في المقابل أن نطلق التحذيرات فقط من الإفراط في الاعتماد عليها، لأنها تحمل ضمنيًا تكريسًا لمفهوم التعليم ذي البعد الواحد الذي يهمش العقل والثقافة والإبداع لحساب ومصلحة توغل وسيطرة وحصر لفوائد التعليم في قيم تعليم سوق العمل فقط، وهي الصيغة التي تربط دائمًا بين الأولوية بالتعليم لتخريج التكنولوجي والتقني، ورفعهم ليكون مثل الدين الجديد بالتعليم رغم أن الفكر والإبداع الفلسفي أخرج لنا مبدعين عالميين مثل نجيب محفوظ وأندريه شديد ذات الأصل المصري أيضًا.

ومن أهم ما قاله هو إجاباته على الطالب سامح الذي طلب نصيحته له وللأجيال الجديدة، فأجاب بأنه لا يمتلك النصيحة الحاسمة! لأنكم أنتم الشباب من تختارون مستقبلكم، فنحن فقط نمهد لكم الفرص وعليكم الاختيار، وهذه نقطة جوهرية نحتاج إلى التركيز عليها، وتتعلق بتطوير أساليب وفلسفة التعليم فبدلًا من فرض الوصاية على الطلاب وبحجة الحماية لهم بنموذج والتمجيد الدائم لتعليم الماضي في سلفية تعليمية مستمرة، وهذه ليست معناها الدعوة إلى الثورة على الأجيال السابقة والأفكار كلها وعدم التعلم منهم ومن تجاربهم، ولكن بتكوين العقلية النقدية التي تشتبك مع القديم والجديد، ربما ساهمت الطريقة التعليمية الأبوية سواء بالمناهج ومؤسسة المدرسة في ترسيخ هذه الأبوية التعليمية، وبأن أبناءنا لابد وأن يكونوا نسخة مستحدثة من الأجيال القديمة، وهذه الوصاية التعليمية يحرسها منهج الحفظ وبرشامة الإجابة النموذجية، ولكنها لا تساعد على التقدم والشغف به فلابد من طرح الأسئلة والحوار؛ لذلك اقترح ماكرون استعداد بلاده في تدريب المعلمين، لأن تدريب المعلم حقًا هو حجر الزاوية في تشجيع الإبداع والتفكير والحد من الفكر التقليدي المحافظ الذي لا يساعد على الابتكار وقبول الآخر الجديد، لذلك قال أحبوا التعليم ومصادره لأنها المستقبل، والتفوا حول الجامعات؛ لأنها تمثل مراكز العراقة التي ستستمر إلى الأبد؛ فهي التي يعرف بها التاريخ والتقدم للدول والأوطان بعد أن تنتهي قوة الدول عسكريًا وسياسيًا، وهنا قفز إلى ذهني فورًا أن هيمنة الاستعمار المباشرة انتهت، لكن بقيت أكسفورد وكمبردج والسوربون والبوليتكنيك، فالتعليم يعني الحرية الفكرية للمستقبل وليس هناك إبداع وتطور بدون حرية فكرية، مثلما حدث عبر تاريخ العلم وتطور الأفكار الإنسانية، بل دعا إلى حوار فكري دولي؛ لبحث هذا المستقبل، وأن تقوم الجامعات بذلك؛ لأنها معقل البحث والأفكار المستقبلية.

لقد وصل عدد الطلاب المصريين الآن إلى ٣٠٠٠ آلاف دارس بفرنسا وبزيادة عن السنوات السابقة بنسبة ٢٢٪ - ربما لمجانية التعليم الجامعي بها - وهنا لابد أن نلح أكثر على زيادة المنح وبرامج التدريب، وتفعيل برامج الشهادات المزدوجة لاسيما في العلوم الإنسانية، وإدخال اللغة الفرنسية بها أو عودتها مرة أخرى. 

وإذا كانت مصر تمتلك التاريخ، فهي أيضًا تمتلك المستقبل؛ لوجود واحد من كل اثنين تحت سن ٢٥ سنة، وهو ما يستدعي منا التأكيد المستمر والإلحاح على المخزون الرأسمالي للتنمية البشرية؛ لأننا أمة شابة، وهذا هو سلاح المستقبل إذا أحسنت استخدامه، وأن التعداد السكاني ليس نقمة، بل هو ميزة للمستقبل الذي يعتمد جوهره على التعليم الجيد الذي يؤدي إلى الإبداع والتقدم، وحسنًا أن فعلت مصر مؤخرًا في البحث عن فرص حقيقية للبناء وللتعاون في عولمة التعليم، وبناء إستراتيجية وشراكة تحديدًا مع فرنسا ليس فقط لتراثها الأكاديمي الطويل معنا، وفي بناء جسور التنوير والعقلانية مثلما أخرجت لنا رفاعة الطهطاوي وتلميذه محمد عبده وطه حسين، ولكن لأن الشراكة ربما لن تكلفنا ماديًا الكثير، لأن التعليم بفرنسا مجانيًا، كما يمكن أن تساهم فرنسا في تطوير التعليم الثانوي والثانوية العامة وبجدية حقيقية، وليس بمجرد اقتباس الاسم "البكالوريا"، بحيث نبتعد عن مدرسة تسليع التعليم من أجل سوق العمل على أهميته التي لا ينكرها أحد، ولكن هناك تخصصات مهمة وإستراتيجية لا تكسب المال الكثير، ولكنها ربما تغير فكر المجتمع وتطويره والتنمية به، وأن يفتح الباب لمساهمة قطاعات كثيرة في هذه الشراكة العلمية والثقافية، بجانب الجامعة الأهلية الفرنسية وتشجيع بناء المدارس المنخفضة التكلفة والمصروفات، وتدرس بلغتين الفرنسية والإنجليزية، وهذا مدخل جيد لجذب الطلاب ولإدخال أنماط من التعليم تساعد على التفكير والتقدم.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: