قراءة في جولات ماكرون بمصر

8-4-2025 | 17:53

في زحام الأجندات السياسية والأمنية التي رافقت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى مصر، برزت جولاته في عمق التاريخ المصري وقلب نسيجها الثقافي كرسالة مُحملة بأبعاد تتجاوز السياحة الدبلوماسية التقليدية. فزيارته للمتحف المصري الكبير، وجامعة القاهرة، وجولته مع الرئيس السيسي في حي الحسين ومنطقة الجمالية، لم تكن مجرد استعراض للتراث، بل كانت جزءًا من إستراتيجية فرنسية لتعزيز الشراكة مع مصر، وإعادة صياغة الدور الأوروبي في الشرق الأوسط عبر بوابة الثقافة والاقتصاد.

المتحف المصري الكبير: رمزية الثقافة كجسر للتعاون الإستراتيجي
اختار ماكرون أن يبدأ زيارته بجولة ليلية في المتحف المصري الكبير، الذي يضم أكثر من 50 ألف قطعة أثرية، منها مجموعة توت عنخ آمون الذهبية، في إشارة واضحة إلى عمق التاريخ المصري كحاضنة للحضارة الإنسانية. هذه الزيارة لم تكن عفوية؛ فالمتحف يمثل مشروعًا ثقافيًا ضخمًا تتعاون فيه فرنسا مع مصر عبر شركات فرنسية متخصصة في الترميم والإدارة المتحفية. بل إن وزير الثقافة أحمد هنو وصف المتحف بأنه "هدية مصر للعالم"، مما يعكس الدور الذي تلعبه الثقافة في تعزيز الصورة الناعمة لمصر كدولة مستقرة في قلب إقليم مضطرب.

هنا، تلتقي المصالح: فباريس تسعى إلى توطيد شراكتها مع القاهرة عبر دعم المشاريع الثقافية التي تبرز مصر كحاضنة للتراث العالمي، بينما تعزز مصر من خلال هذه الشراكات مكانتها كوجهة للاستثمارات الأوروبية في قطاعات السياحة والبنية التحتية الثقافية.

جامعة القاهرة: التعليم كأداة لصياغة المستقبل
تحولت زيارة ماكرون إلى جامعة القاهرة إلى حدثٍ رمزي بامتياز. فبعد أن ألقى جاك شيراك خطابًا فيها عام 1996، أصبح ماكرون ثاني رئيس فرنسي يزور الجامعة، حيث شارك في إطلاق مؤتمر التعليم العالي والبحث العلمي المصري-الفرنسي. هذا الحدث لم يكن مجرد توقيع اتفاقيات، بل كان تأكيدًا على رغبة فرنسا في أن تكون شريكًا أساسيًا في تشكيل العقل المصري عبر برامج تعليمية مشتركة، خاصة في مجالات التكنولوجيا والعلوم الحديثة.

وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن التعاون التعليمي يتزامن مع ارتفاع حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 2.9 مليار دولار عام 2024، مما يؤكد أن فرنسا تستثمر في "رأس المال البشري" المصري كجزء من إستراتيجيتها طويلة المدى لتعزيز النفوذ الاقتصادي.

 جولة الحسين والجمالية: الدبلوماسية الشعبية وإحياء الذاكرة المشتركة
أما جولة ماكرون والسيسي في حي الحسين وخان الخليلي فقد حملت رسائل متعددة الطبقات. فاختيار الحي التاريخي، الذي يضم مسجد الحسين وسوق خان الخليلي، يُذكّر بعلاقات فرنسا مع مصر منذ الحملة الفرنسية في القرن الثامن عشر، والتي كانت بداية للتبادل الثقافي بين البلدين، كما أن العشاء في مطعم "نجيب محفوظ" – الحائز على نوبل للأدب – لم يكن حدثًا عابرًا، بل تأكيد على الدور الثقافي لمصر كجسر بين الشرق والغرب.

الأهم من ذلك، أن هذه الجولة – التي رافقتها مقاطع فيديو لطائرات الرافال الفرنسية الصنع التابعة للقوات الجوية المصرية – جمعت بين الرمزية العسكرية والثقافية. فالرافال، التي اشترتها مصر كجزء من صفقات تسليح ضخمة، ليست مجرد طائرات حربية، بل دليل على عمق التحالف الإستراتيجي الذي تتجاوز قيمته 591 مليون دولار في الاستثمارات الفرنسية بمصر عام 2023.

 الخيط الخفي: من الثقافة إلى السياسة
وراء هذه الجولات، ثمة خطٌ خفي يربط بين الثقافة والاقتصاد والسياسة. فماكرون، الذي يرفض خطة ترامب لتهجير الفلسطينيين، يعلم أن دعم مصر في ملف غزة – عبر فتح معابر رفح وإعادة الإعمار – يتطلب تعزيز شرعيتها الإقليمية كقوة ثقافية واقتصادية. ولذلك، لم تكن زيارة العريش – حيث مخازن الهلال الأحمر المُعدة لإغاثة غزة – منفصلة عن جولاته الثقافية، بل كانت جزءًا من نفس النسيج: تعزيز مصر كحاضنة للأمن الإقليمي وشريكٍ لا غنى عنه لأوروبا في مواجهة التحديات المشتركة، من الهجرة غير المنتظمة إلى التطرف.

 التاريخ كسلاح إستراتيجي
في النهاية، تظهر جولات ماكرون أن الدبلوماسية الحديثة لم تعد تُختزل في المفاوضات السرية أو الاتفاقيات الرسمية، بل أصبحت تُبنى عبر إحياء الذاكرة المشتركة، واستثمار الرموز الثقافية، وربط الاقتصاد بالهوية. فرنسا، التي تخشى تراجع نفوذها في إفريقيا والشرق الأوسط، تعيد اكتشاف مصر كحليفٍ إستراتيجي من خلال بوابة التاريخ، بينما تستخدم القاهرة هذا التعاون لتعزيز مكانتها كقاطرة للاستقرار في منطقة تموج بالأزمات. والدرس الأهم هنا: أن الثقافة قد تكون السلاح الأقوى في حروب النفوذ الجيوسياسي.
 
ما وراء زيارة ماكرون لمصر: الصراع على مستقبل غزة والشرق الأوسط
في زحام الأحداث المتسارعة بالشرق الأوسط، تأتي زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى مصر كعلامة فارقة في مسار دبلوماسي معقد، لا يتعلق فقط بملف غزة المُحاصرة، بل بصراع أعمق حول رؤى مستقبل المنطقة، ومحاولات إعادة ترسيم خريطة التحالفات الدولية في ظل تحوّلات جيوسياسية طالت حتى الثوابت التاريخية. فالزيارة، التي يُركز فيها ماكرون على دعم "الخطة العربية" لغزة، ليست مجرد مناورة دبلوماسية عابرة، بل هي تعبير عن تنافس إستراتيجي بين نموذجين: أحدهما يُحاول الحفاظ على الشرعية الدولية متعددة الأطراف، والآخر يُمركز القوة في إطار أحادي يخدم مصالح ضيقة.

الخطة العربية
لا يُخفي ماكرون، منذ فترة، قلقه من تدهور النظام الدولي، والذي تحوّل من ضامن للاستقرار العالمي إلى لاعبٍ يهدم ما تبقى من قواعد اللعبة المشتركة. خطة ترامب للسلام، التي تجاهلت الحقوق الفلسطينية التاريخية وحوّلت غزة إلى كيان معزول، لم تكن مجرد وثيقة سياسية فاشلة، بل كانت جزءًا من رؤية تهدف إلى تفكيك أي أمل بحلٍ عادل، واستبدال الشرعية الدولية بصفقاتٍ استثمارية مُؤقتة. هنا، تبرز الخطة العربية كردٍ جيوسياسي يحمل بُعدين: الأول، الحفاظ على القضية الفلسطينية كقضية مركزية للعرب، والثاني، إعادة مصر إلى موقعها التقليدي كفاعل مركزي في صناعة السلام.

ماكرون، بذكاء، يلتقط هذه الإشارة ويعيد تموضع فرنسا كوسيطٍ أوروبي قادر على لعب دورٍ توازني بين القوى العظمى. دعمه للخطة العربية ليس تعاطفًا مع القضية الفلسطينية فحسب، بل استثمار في شراكة إستراتيجية مع مصر، التي تمتلك مفاتيح الأمن في غزة عبر حدودها وعلاقاتها مع الفصائل الفلسطينية. فرنسا، التي تخشى من تمدد النفوذ الروسي والصيني في المنطقة، تُدرك أن دعم مصر سياسيًا وإغاثيًا هو ضمانة لاستقرار قد يُعيد رسم تحالفات المستقبل.

 إعادة فتح المعابر: بين الإغاثة والصراع على النفوذ
الحديث عن إعادة فتح معابر غزة ليس قضية إنسانية بحتة، رغم أهمية تخفيف المعاناة عن مليوني فلسطيني يعيشون تحت حصارٍ غير مسبوق. فالمعابر، في السياق الجيوسياسي، هي نقاط تحكُّم تُحدد مَن الذي يملك سلطة القرار في القطاع: هل هو التحالف المصري-الأوروبي الذي يسعى لتفادي انفجار أزمات إنسانية تدفع بموجات هجرة غير منتظمة نحو أوروبا؟ أم هي إسرائيل التي تريد تحويل غزة إلى سجنٍ كبير تُدار مفاتيحه من تل أبيب وواشنطن؟

ماكرون يضغط هنا على وترٍ حساس: فتح المعابر يعني تعزيز نفوذ مصر المباشر في الملف الفلسطيني، وهي خطوة قد تُعيد تعريف دور القاهرة كلاعبٍ رئيسي في أي مفاوضات مستقبلية. لكنها أيضًا رسالة لإسرائيل وواشنطن بأن الاعتماد على الخطة الأحادية لترامب لن يُنتج إلا مزيدًا من الاحتقان، وأن أوروبا لن تكون شاهدًا صامتًا على تصفية القضية الفلسطينية.

 ما بعد الزيارة: هل تُعيد فرنسا تشكيل اللعبة؟
زيارة ماكرون تحمل في طياتها سؤالًا أكبر: هل تستطيع أوروبا، بقيادة فرنسا، أن تكون قوة موازنة في الشرق الأوسط بعد تراجع الدور الأمريكي التقليدي؟ الإجابة ليست بسيطة، فالقدرة الأوروبية على فرض رؤيتها لا تزال مقيدة بغياب التكامل العسكري والاقتصادي بين دول الاتحاد. لكن ماكرون، بحنكته، يُحاول تحويل الأزمة الإنسانية في غزة إلى فرصة لبناء تحالف عربي-أوروبي.

في النهاية، ليست هذه الزيارة مجرد محطة في جدول أعمال رئيسٍ أوروبي، بل هي اختبار لإرادة المجتمع الدولي في الحفاظ على مبدأ "حل الدولتين"، وتذكير بأن غزة لن تتحوّل إلى مقبرةٍ للضمير العالمي.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة