يمر العالم بلحظة عصيبة خانقة، يبحث فيها عن مخرج آمن منها، وياحبذا لو تم ذلك بأقل أضرار ممكنة، فهو محاصر من عدة اتجاهات، فمن جهة تلقى النظام التجاري الدولي ضربة مؤلمة بعد قرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بزيادة الرسوم الجمركية لمستويات غير مسبوقة منذ نصف قرن، مما أربك أسواق المال والأسهم وحركة التجارة العالمية وكبدها خسائر بمليارات الدولارات.
ومن جهة أخرى تتداعى مبادئ العدالة والإنصاف ومناصرة المظلومين، والمثال الحى يوجد في غزة، ويتزامن مع هذا التداعي عمليات الهدم المتعمدة والممنهجة لكيانات دولية يفترض خضوع الجميع، دون استثناء، لقواعدها وأحكامها، منها المحكمة الجنائية الدولية، والأونروا والأمم المتحدة، وأضحى النظام الدولي أسيراً للاقواعد ولشريعة الغاب التي تجيز للأقوى التهام الضعيف بلا رحمة.
هذا الوضع المختل يُنذر بكوارث سيتعين على الشعوب والحكومات دفع فواتيرها المكلفة، ربما لعقود تالية، نظرًا لغياب المرجعية الكفيلة بإعادة الأمور إلى نصابها وإلى نقطة التوازن التى تجنب الجميع ويلات الحروب بأشكالها المختلفة، أو على أقل تقدير تحجم نطاقها وتحول دون امتداد شرارتها يميناً ويساراً، ومما يزيد من قتامة الصورة تلك المحاولات المستميتة لإشعال مواجهة عسكرية مع إيران بتحريض إسرائيلي ودعم أمريكي مباشر، والتهديدات المتبادلة بين طهران وتل أبيب بمهاجمة المنشآت النووية الإيرانية والإسرائيلية، ومن ثم فتح أبواب الجحيم على البشرية كلها.
وهنا يقفز السؤال المحير: إلى متى سوف يستمر الحال هكذا؟
بحسابات الوقت الدقيقة سيصعب التحديد، طالما لا تتوافر الشروط المطلوبة، وأهمها امتلاك كل الأطراف شجاعة الرجوع خطوة للخلف وتغليب العقل على الاندفاع والعناد، فلا أحد يجادل بأحقية الدول فى المحافظة على مصالحها العليا والدفاع عنها بكل ما لديها من قوة وأدوات، لكن فى الوقت نفسه لابد من مراعاة أننا لا نعيش بمعزل عن بعضنا البعض ويجب تقديم تنازلات معقولة ومقبولة، خاصة من القوى الكبرى المتحكمة فى مفاصل ومفاتح النظام الدولي المعتل والمهترئ، ويتصدرها الولايات المتحدة، حتى تسير القافلة وتستقيم العلاقات الدولية إلى حد معقول.
غير أن البادى أمامنا أن ترامب وإدارته لا يقبلان إلا بما يشترطان ويحددان سلفا، بل ويصران عليه، حتى لو كان سيتسبب فى خراب شامل للآخرين، مثلما نرى مثلا فى مسألة تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، ظنا بأن ذلك سينهى القضية الفلسطينية ويكتب نهايتها واندثارها، دون وضع اعتبار لأن الاقتراح الخبيث فيه افتئات وجور على حق شعب محتل فى التمسك بسيادته وأرضه والحياة الكريمة، وأيضا سيخل بالأمن القومي لدول الجوار ويعصف به وبالتبعية بالسلام والأمن في الإقليم بأسره.
نحن إزاء حل من اثنين، الأول إما استسلام دول العالم لحين مرور العاصفة، أو ما قد يستجد ويجبر ترامب على التراجع عما ينتويه ويعلنه بصورة فجة، والثانى أن يعلو صوت الإرادة الدولية ويزداد زخمه وقوته بالتوافق بين القوى الكبرى والمتحالفين معها على التزام جانب الحكمة والابتعاد عن سياسة المخاطرة وحافة الهاوية التي تفضلها وتطبقها إدارة ترامب، حفاظًا على السلم الدولى، وبناء نظام دولى جديد يتماشى مع التطورات الحادثة، منذ نهاية الحرب الباردة بين القطبين الأمريكي والسوفيتي مطلع تسعينيات القرن العشرين، وأن تحظى فيه بلدان صعد نجمها في السنوات الأخيرة كالصين وروسيا وغيرهما بالمكانة اللائقة والمحققة لمصالحها المشروعة، وأن يكون عماده التعددية وليس الأحادية.
سينظر البعض للخيار الثاني على أنه مثالي أكثر من اللازم وفرص تحققه تكاد تكون معدومة، لأن التاريخ يُحدثنا عن أن الكبار دوما يفرضون منطقهم، حتى لو كان خاطئًا وفاسدًا وشريرًا، وأنهم ينتصرون في نهاية المطاف وتقوى شوكتهم، ومع اتفاقى الجزئي مع هذا الرأي، يبقى أنه لا يوجد شيء مطلق، وتطرأ دائما متغيرات وتحولات سواء كانت داخلية أو خارجية قادرة على تعديل الدفة والمشهد بكامله، وأن وحدة الموقف والاتجاه بمقدورها التصدي لهجوم الرسوم الجمركية وما على شاكلتها، وواضح أن عالمنا يترقب حدوثها أملا في إنقاذه من بقية مخططات وأفكار ترامب الصادمة والجامحة، فهل سيطول ترقبه وانتظاره؟.