يتعقد المشهد من جديد، تتشابك خيوطه، يضرب بيديه في كل اتجاه، تتسابق التوقعات، تنتفض القلوب، تتوه العقول بين حقائق وأكاذيب، ويبقى صوت الحق الآتي من لدن سميع عليم يطمئن عباده الصالحين، يخفف، يفتح الأعين على حقيقة إيمانية ثابتة تمنح متبعيه الأمل وسط هذا الظلام البعيد، تبتعد بهم عن أرض حملت فوق ظهرها كل نقيض، يكشف لهم معنى الوجود، يذكرهم بوعده المعروف والمكتوب، وعد حق يلوح وسط عالم كذوب.
كلما تناحرت الكلمات في خضم بحر الجدل لكي تتغلب كل منها على الأخرى كلما تزايدت وتعالت صيحات الترغيب والترهيب، تود كل كلمة منها أن تشيد قلاعًا من حيرة ومن يأس متعمد مقصود، لا تدرك حقيقته أو تعيه إلا القلوب المؤمنة بحكمة الله التي بها ستفك بها المحن وتنقضي الكروب، فالحكمة ترتدي ثوب عدلها وتخرج في موكبها المهيب، تعطي وتمنح أسرارها لكل من كان له نظر ثاقب لا يروغ، لكل صاحب قلب نقي وعقل رشيد.
علينا أن نترك لعقولنا المكتظة بكل هذه الأحداث الفرصة لأن تهدأ، علينا أن نسلم بأمر ربنا قولًا وعملا، علينا استجلاب الثقة فيه سبحانه، نتأملها ونسردها قصصًا تروى ومنهاجًا يسود، فما الذي سيعود علينا من هذا اللهاث الذي يأخذنا لمضمار سباق كتب في نهايته أجل محدد وعمر يمثل هدف المباراة الأخير والوحيد؟
الحياة ومهما اشتدت علينا سنواتها العجاف لها نهاية، والأمل لا يتعارض مطلقًا مع عمق الفكر والتفكير في مسببات وعواقب الأمور، فلننظر لما بين أيدينا من إمكانات وموارد متاحة لنا، نصنع منها ما نصبو إليه وما نريد دون اكتراث لبشر يزايد على إنسانيتنا، نقدم ما بوسعنا ونترك لله عاقبة الأمور.
من منا لا يريد أن يحيا في أمان؟ من منا لا يرجو أن يعم السلام أرجاء عالمه الذي اختلطت أوراق تعامله، تلطخت بآثامه، تعرضت لأطماعه، أطماع هادرة كشلالات لا تكف عن الاندفاع نحو الأسفل، تضلل الطامعين فتجعلهم يدورون في حلقات مفرغة لا تجدي ولا تفيد، إنهم يسيرون على غير هدى متيقنين من سلامة اتجاه بوصلة حمقهم التي ستدفع بهم إلى طريق مسدود، كلمات تتناثر تصريحات تتبعثر، شعور بشتات، وظن خائب يحدثهم بأن هذه الحياة ستدوم وتدوم.
ليس علينا الآن إلا القيام بتذكير بعضنا البعض بأننا مادمنا على الحق سائرين؛ فنحن بلا شك سنكون في كنف الله آمنين، علينا أن ندرك مقدار إيماننا، نسعى لمضاعفته طالبين من الله الثبات والتثبيت، فالفتنة الآتية بطيشها تنوي أن تظلل علينا بهذا السفه الذي طالما استشرى فأصاب أغلب سكان الأرض بالجمود، دفعهم للظلم والانتقام من بعضهم البعض، ناسين أن هذا النزاع عبارة عن وهم كبير، فهذا العالم محكوم عليه بالفناء من قبل أن يوجد، مهما مرت عليه الأعوام وتعاقبت عليه السنين.