انتهي زمن الوهم النيوليبرالي!

5-4-2025 | 13:44

لا شيء يفضح زيف الخطاب الرأسمالي أكثر من لحظات الأزمات، حين تتحول "المبادئ المقدسة" إلى مجرد أوراق تمسح وتعاد طباعتها حسب مصالح القوى العظمى. 

قرارات ترامب الأخيرة بفرض جمارك مرتفعة ليست سوى حلقة في مسلسل طويل من التناقض بين ما ترفعه الرأسمالية من شعارات وما تمارسه من سياسات. 

فـ"التجارة الحرة" التي ينظر إليها كقانون طبيعي، ليست إلا أداة في يد الأقوى لفرض هيمنته، ثم ترمى جانبًا حين تتعارض مع مصالحه. 

لا يذكر آدم سميث وكتابه «ثروة الأمم» إلا ويستشهد به كأب لليبرالية الاقتصادية، لكن التاريخ يخبرنا أن الرأسمالية لم تكن يومًا مخلصة لمبدأ "دعه يعمل دعه يمر". 

بريطانيا، التي رفعت شعار التجارة الحرة في القرن التاسع عشر، كانت تستخدم أسطولها الحربي لفتح أسواق الصين بالقوة، عبر حربين دمويتين (1839-1860) لترويج الأفيون الهندي، الفكرة واضحة: "التجارة الحرة" تعني حرية الأقوى في السيطرة، لا حرية الجميع في المنافسة.  

حتى داخل أوروبا نفسها، لم تكن السوق الحرة إلا وهمًا. فبريطانيا منعت استيراد الأقمشة الهندية لحماية صناعتها الناشئة، وفرضت قيودًا على السفن الأجنبية، بينما كانت تروج لشعارات الحرية في المستعمرات. لم تكن المشكلة في "الجمارك" بحد ذاتها، بل في من يملك الحق في فرضها. فالقوي يفرض الجمارك حين يحتاج، ويحظرها على الضعيف حين يشاء.  

اليوم، تعيد الولايات المتحدة نفس اللعبة، لكن بخصم مختلف: الصين، التي نجحت في تحويل نفسها من «مصنع العالم» إلى منافس يستخدم أدوات الرأسمالية نفسها ضد مخترعيها. 

المفارقة أن الصين تعلمت الدرس جيدًا: ففي ثمانينيات القرن الماضي، فتحت أسواقها بذكاء، مع حماية صناعاتها عبر جمارك وقيود غير مباشرة، بينما كانت واشنطن تفرض على الآخرين سياسات "السوق المفتوحة".  

الآن، حين بات التنين الصيني يهدد الهيمنة الأمريكية، يكتشف الجميع أن "التجارة الحرة" ليست مبدأً أخلاقيًا، بل حسابات مصلحية. ترامب يرفع الجمارك، ليس لأنه اكتشف فجأة ضرر العولمة، بل لأن الصين لم تعد ذلك الشريك الطيع الذي يقبل بدور المصنع رخيص الأجر، بينما تحتكر أمريكا التكنولوجيا والأرباح.  

لماذا يكذب الليبراليون على أنفسهم؟   
الخطأ الأكبر في الخطاب الليبرالي هو افتراض أن الاقتصاد كيان مستقل عن السياسة والقوة العسكرية والصراع الجيوسياسي. الواقع يقول: لا توجد تجارة حرة في عالم تحكمه الميليشيات المسلحة بالدبابات والبيانات الاقتصادية.

كل اتفاقية تجارية تكتب بلغة المصالح والتهديدات. حتى الاتحاد الأوروبي، الذي يصور كمعجزة التعاون السلمي، قام على أنقاض حربين عالميتين، وعلى خوف مشترك من السوفييت.  

الأمر نفسه ينطبق على الجمارك: ليست أداة "شريرة" أو "حميدة"، بل سلاح يستخدمه الكبار لفرض شروطهم. حين كانت أمريكا القوة الصناعية الأولى بعد الحرب العالمية الثانية، روجت لخفض الجمارك العالمية عبر «الجات» (اتفاقية التجارة العامة). اليوم، وهي تواجه تراجعًا نسبيًا، تعود إلى سياسات الحماية. الفرق أن الضعيف لا يملك ترف الاختيار.   

الجدل حول فعالية قرارات ترامب يفتقد الرؤية الشاملة. فالصراع مع الصين ليس اقتصاديًا فحسب، بل هو معركة على الهيمنة العالمية: من يتحكم في التكنولوجيا (مثل أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي)، ومن يسيطر على طرق التجارة (مضيق ملقا، قناة السويس)، ومن يصوغ قواعد النظام الدولي. في هذا السياق، الجمارك مجرد أداة في ترسانة أشمل، قد تنجح في إبطاء الصين، أو قد تدفعها إلى تسريع تحررها من التبعية لأمريكا.  

المشهد الأكثر إثارة هو أن النظام العالمي الذي بنته الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية ينهار تحت أقدام من أقاموه. فالصين لا تتبع "الوصفة الليبرالية"، ومع ذلك تنجح. وروسيا تتحدى العقوبات بالتحالف مع خصوم أمريكا. وحتى داخل الغرب، تتصاعد الشعبوية التي تكشف زيف نخبة الليبرالية الجديدة.  

الدرس التاريخي واضح: كلما أُسقطت الأيديولوجيا، ظهرت المصالح عارية. فالرأسمالية لا تؤمن بـ"التجارة الحرة"، بل تؤمن بامتيازات الأقوياء. والبشرى الوحيدة هي أن اللعبة لم تعد حكرًا على لاعب واحد.

أمريكا والصين في المواجهة ..
جمارك ترامب هي البداية فقط! فما نشهده اليوم هو فصل من فصول حرب اقتصادية أوسع، حيث تحول واشنطن كل أدواتها – من العقوبات إلى حظر التكنولوجيا – إلى أسلحة لشَل تحرك التنين الصيني. حين منعت أمريكا تصدير أشباه الموصلات إلى الصين، لم تكن تحمي "الأمن القومي"، بل تعيد إنتاج سيناريو الثمانينيات مع اليابان، حين قصّرت أجنحة منافس يهدد هيمنتها التكنولوجية. الفارق أن الصين ليست يابان ما بعد الحرب، بل قوة تمتلك جيشًا وبنية تحتية رقمية ومشروع "الحزام والطريق" الذي يعيد تشكيل جغرافيا التجارة العالمية بعيدًا عن السيطرة الغربية.  

المؤسسات الدولية: شاهد زور على انهيار النيوليبرالية  
منظمة التجارة العالمية (WTO)، التي كانت تقدم كحكم نزيه، تكشف أزمتها عن فشل النموذج الليبرالي. فبينما تطالب واشنطن بإصلاح المنظمة، ترفض التنازل عن حق النقض (الفيتو) الذي تستخدمه لحماية انتهاكاتها. المفارقة أن الصين – التي اتهموها بـ"الانتهاكات" – أصبحت أكبر مدافع عن "التعددية"، ليس حبًا في العدالة، بل لأن النظام القديم لم يعد يخدمها. هنا تتحول المؤسسات الدولية إلى ساحة صراع، حيث يعاد تعريف القواعد مع كل تغير في موازين القوة.  

لعبة كراسي دوارة..
في ظل الحرب التجارية، تتحرك دول مثل الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا بخطى حذرة. فبينما ترفع شعارات "الاستقلال الاقتصادي"، تتعامل ببراجماتية مع التكتلات الجديدة. الهند ترفع جماركها لحماية صناعاتها، وفي الوقت نفسه تتعاون مع واشنطن في تحالف "الكواد" لمواجهة الصين. هذه "الازدواجية" ليست نفاقًا، بل بقاء في عالم يرفض فيه الكبار أن يكون للضعيف إستراتيجية إلا رد الفعل.  

ليست "أشباه الموصلات" مجرد سلعة، بل عملة السيطرة في القرن الحادي والعشرين. الصين تسرع من استثماراتها في الرقمنة والذكاء الاصطناعي، بينما تجند أمريكا شركات مثل "آبل" و"جوجل" في معركة فصل الشبكات التكنولوجية إلى معسكرين. حتى الاتحاد الأوروبي، الذي يحاول البقاء فوق الصراع، يدفع ثمن تبعيته لتكنولوجيا أمريكية وصينية. السؤال: هل سنشهد انقسام الإنترنت إلى "شبكة غربية" و"شبكة صينية"، كما انقسم العالم يومًا إلى شرق وغرب؟  

مستقبل النظام العالمي:
الانهيار التدريجي لهيمنة الدولار يعيد إلى الأذهان صعود الإمبراطورية البريطانية ثم أفولها. فالاتفاقات الصينية لشراء النفط باليوان، وتبني روسيا عملات بديلة في تجارتها مع آسيا، ليست سوى مؤشرات على تحول جيوسياسي عميق. لكن الفارق هذه المرة أن النظام الجديد لن يكون "قيادة أمريكية جديدة"، بل فوضى متعددة الأقطاب، حيث تتصارع القوى العظمى والناشئة على أنقاض نظام لم يعد قادرًا على احتواء تناقضاته.   

الدرس الذي ترفض النخب الليبرالية تعلمه هو أن "القانون الدولي" و"التجارة الحرة" لم يكونا سوى أداتين لترسيخ هيمنة الغرب. اليوم، مع صعود الصين وتآكل الأحادية القطبية، يعود الاقتصاد إلى جذوره: صراع خام على الموارد والسلطة. فكما قادت الحروب التجارية إلى حربين عالميتين في القرن العشرين، قد تقودنا الحروب التكنولوجية اليوم إلى مواجهات أكثر خطورة. لكن هذه المرة، لن يكون الضحايا أوروبيين أو يابانيين، بل شعوب من الجنوب تدفع إلى الخنادق الأمامية في معارك ليست معاركها.  

الواقع الجديد يقول: انتهى زمن الوهم النيوليبرالي. فإما نظام عالمي أكثر عدالة – وهو احتمال ضئيل – أو فوضى تعيد تعريف القسوة. أما أن نستمر في تصديق أن "السوق" سينقذنا، فهذه ليست سوى نكتة يرويها الأقوياء بينما يعدون قوائم الضربات القادمة.

[email protected]

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: