"هل تعرفين روزا باركس؟" هكذا باغتتني حفيدتي ذات السبع سنوات بالصف الثاني الابتدائي بعدما عادت من يوم مدرسي عادي. صمتت قليلاً، وتصنعت عدم المعرفة، وإذا بها تندفع بسرعة الفيمتو كلام، وتحكي لي عن روزا المرأة الأمريكية السمراء -من أصول إفريقية- وكيف طلب منها السائق ترك مقعدها في الأتوبيس العام للركاب البيض كما تجري الأعراف والتقسيم القانوني العنصري، وأنها رفضت ذلك! قلت لها دعيني أتعلم معك ونبحث عنها؟ وكتبت اسمها على الكمبيوتر لتظهر أمامي معلومات كثيرة وفيلم حاز على جوائز أيضاً، وأكملت من عندي وسط اندهاشها وبتبسيط لها بأنها دفعت مصروفها اليومي كغرامة مالية بعد أن استدعى السائق الشرطة لها، لأنها جلست في مكانها الصحيح وتمسكت به.
أعادتني وقائع المفاجأة مما تتعلمه الصغيرة بمدرستها الدولية إلى التساؤل عن مناهجنا، وأنني لم أدرس في مدرستي ومنذ عقود وربما حتى الآن أي معلومة باسم روزا باركس، وربما عرفت، وفي مرحلة متأخرة من الدراسة، اسم مارتن لوثر كينغ، وعرفت الوقائع من مسلسل "كونتا كنتي"، والذي كان يذاع منذ سنوات، ولكن عرفت اسم روزا وغيرها حينما ذهبت في رحلة تدريب صحفية لأمريكا، ومكثت بالجنوب الأمريكي معقل استيراد الأفارقة، وقمنا بزيارات للأماكن ولسفن العبيد وهو الاسم العنصري الذي أطلق على الأفارقة الذين تم جلبهم بالقوة إلى الأرض الجديدة، وشاهدت الحظيرة التي كان يتم تجميعهم بها، ومررت هناك بتجارب وأقوال وممارسات تعكس وجود العنصرية في كثير من المواقف والعقل الضمني، حتى أنه كانت تصدر لنا تعليمات بعدم زيارة أماكن محددة؟ والتحذيرات من خطورة زيارة المولات المخصوصة للأمريكيين السود! وكتبت عن ذلك وقتها وعندهم في صحفهم، وكيف أن مثل هذه المواقف والحكايات تصدر لنا استمرار العقل العنصري ضد الآخر.
ولكن في السنوات الأخيرة تم تكريم مثل هذه الشخصيات العظيمة ومنهم روزا على سبيل المثال، فكرمها الكونغرس بأعلى وسام إنساني، وفي مبنى الكابيتول خرج جثمانها، فقد كان احتجاج روزا هو بداية لتحركات مقاطعة هذه الشركة ومناهضة قوانين الفصل العنصري أو القوانين التي تعرف بقوانين جيم كرو للفصل العنصري.
مثل هذه المواقف جعلتني فيما بعد أبحث عن التاريخ العالمي الذي لم ندرسه بمدارسنا، فقرأت عن تفاصيل الأحداث المثيرة وساعد الفن والأفلام على تجسيد لشخصيات والأسماء الشهيرة ونضالهم نساء ورجال حتى في العلم، ومؤخراً شاهدت فيلماً وثائقياً رائعاً عن باتريس لومومبا قائد تحرير الكونغو وفاز بجوائز عالمية وحفظت الأحداث تحسباً أن تسألني يوماً حفيدتي عنه مثلما سألتني أيضاً عن نيلسون مانديلا.
مثل هذا التعليم، وهو ليس تعليماً في المدارس الأمريكية على كل حال، أي ليس لدراسة تاريخهم فقط، وإنما تعليم دولي أوروبي يدرس القصص التي تساعد الأطفال والأجيال الجديدة على معرفة قضايا التاريخ الإنساني، وبجانب تاريخ الوطن، وأثبتت القصة التاريخية التي روتها لي حفيدتي الصغيرة صدق مقولة أن التعليم في الصغر كالنقش في الحجر، فها هي قصة ملهمة إنسانية شدت عقل وقلب طفلة وزملائها لمعرفة الخطأ الإنساني في العبودية مثلاً أو مدى العنصرية التي عاشتها أجيال ومواطنون آخرون بدون أن تذكر أو تعرف معنى كلمة العبودية التي نكررها رغم أنها في الواقع الحالي غير موجودة، وإنما عرفت الظلم والتمييز من القصة، ولدينا مثال القضية الفلسطينية وحرب الإبادة التي تحدث يومياً، وضرورة تدريسها بالتأكيد ذلك سيخدم ليس الحاضر فقط وإنما يخدم على المدى الطويل قضايا الأمن القومي المصري، وأننا دعاة سلام وتعايش بين الشعوب التي تريد السلام حقاً وتمارسه وتحافظ على حياة الشعوب، وذلك من خلال الحكايات والأسماء ولدينا تجارب حقيقية في استجابة الأطفال، هذا هو التعليم الذي نريده "التعليم ذو البعد الإنساني"، ويثبت تهافت مقولة أن عقل الصغار والتلاميذ لا يستوعب مثل هذه القصص أو هذا النوع من التعليم أنه تعليم بالقيم الإنسانية الحقيقية، وبطرق غير مباشرة، التي تساعد على خلق العقل الناقد لدى الطفل منذ مراحل مبكرة، وتجعله مستقبلاً وفيما سيقابل في الحياة يطرح الأسئلة ويكون الرأي ويبحث بنفسه مثلاً عن حياة روزا باركس وغيرها، كما قالت لي أيضاً عنه، وهنا ليس هناك مانع من إدخال التكنولوجيا، وأن يستعين الطفل بأدوات المعرفة التكنولوجية الحديثة من ذكاء اصطناعي وأفلام ومعلومات وغيره، هنا سينتبه الطفل منذ مراحل مبكرة إلى التعامل مع هذه الأدوات بفائدة عظمى وبدون التعليمات الكثيرة التي نصدرها خوفاً من العبث بعقولهم الصغيرة وهذا واقع لا ننكره فهذه التكنولوجيا الهامة، تحمل مضامين سرديات وليست محايدة أيضاً، ولكن التعليم الحقيقي بمثل هذه الأسماء والشخصيات والأحداث هو ما يحصن عقول طلابنا ضد سرديات أخرى؛ لأنه سيمتلك المعرفة ومنذ سنوات مبكرة تحصنه فيصعب اختراقها مثلاً بنظريات التفوق العرقي ومسلسل الاضطهاد والفوبيا من الآخر على خلاف الواقع والحقائق وربما لذلك هناك الآن رد فعل من الأجيال القديمة والسلطات الحاكمة في أمريكا على الجامعات والتعليم بسبب موقفهم من الاطلاع على الحقائق مباشرة صوت وصورة فكانت المواجهة بالتهديدات والإجراءات العقابية، في مواجهة صوت الطلاب والتعليم الإنساني.
فالأبواب المفتوحة الآن أمام طلابنا وشبابنا للسفر للخارج بالاحتكاك والدراسة والعمل، فلا بديل عن تحصينهم بتدريس نماذج من تاريخ الشعوب الأخرى، وأن نطور قصص تعليمنا والقراءة به بدلاً من أن نقصر معرفته على تاريخنا المحلي فقط، وعلينا أن نعلم أن مناهج التعليم في الخارج تدرس باستفاضة تاريخ الشعوب الأخرى وحضارتها، وأجيالنا الجديدة في ظل انفتاح معرفي وتكنولوجي وتتواصل مع العالم، وبدون فلتر أحياناً ولا نستطيع منعها، ومواجهة ذلك إلا بتحصينهم بالمعارف والتاريخ والنماذج الإنسانية، ونحتاج إلى مراكز ثقافية وعلمية لدراسة قضايا وعالم الغد وما يحتاجه تكوين العقل الطلابي المستقبلي، وليس في احتياجات سوق العمل فقط.