في لحظة ما يجب أن يصمت الجميع، ليستمع الكل لصوت الناس، لصوت الضحايا. وأغلب الظن أننا نقترب من وقت المراجعات لكل ما جرى في غزة منذ السابع من أكتوبر وحتى الآن.
والأرجح أنه في مواجهة هذه الإبادة الجماعية، والمأساة الأفظع في التاريخ الحديث للمنطقة، لا مجال لأي طرف للحديث عن انتصار.
ويبدو أن العواصف السياسية تتجمع بقوة ضد بنيامين نتنياهو "مجرم حرب غزة"، وبدأت الدائرة تضيق حول رقبته، وبات مصيره على المحك. وبات المشهد موحشًا لملك إسرائيل المهدد من الجنائية الدولية، ومن تدهور علاقات بلاده مع الدول العربية، وبقية دول العالم، وأزمة سياسية داخلية، واتهامات بالفساد، وشبح السجن الذي ينتظره، وبالرغم من كل "الألاعيب البهلوانية" فإن عائلات الأسرى الصهاينة مستمرة بهجومها على نتنياهو.
وأدى استئناف القتال في غزة من دون عودة الرهائن، إلى جانب خطوات أخرى مثيرة للجدل اتخذتها الحكومة ضد القضاء والمؤسسة الأمنية، إلى موجة من الاحتجاجات الحاشدة في أنحاء إسرائيل.
وأكدت هيئة عائلات الأسرى الصهاينة أن "الضغط الشعبي فقط هو ما يعيد المختطفين"، مضيفة أنه "من الواضح للجميع أن الضغط العسكري يقتل المختطفين". ودعت "جميع الإسرائيليين إلى الانضمام إلينا للتظاهر للمطالبة بوقف الحرب"، مشيرة إلى أن "نتنياهو يطيل الحرب كي ينجو من لجنة التحقيق، وانهيار حكومته، ويضحي بالمختطفين وبالدولة كاملة من أجل بقائه في السلطة". وأردفت أن "استئناف الحرب لن يؤدي إلا إلى قتل باقي المختطفين في غزة".
وقالت لترامب: "نتنياهو وديرمر يخدعاننا، وأنت وحدك تستطيع إنهاء الحرب". وهنا فالأرجح أن ترامب سوف يجد صعوبة في الاستمرار في تجاهل عمليات القتل العبثية من أجل شخص نتنياهو، والذي بات "عبئًا باهظ التكلفة"، ويجب تحييده وإخراجه من الساحة لبدء صفحة جديدة، وتعودنا في اللعبة السياسية التخلص بسرعة من "الشخصيات الأعباء" بعدما تنتهي أدوارها.
وفي الوقت نفسه كشف استطلاع رأي أن 69 بالمئة يؤيدون إنهاء حرب غزة، مقابل اتفاق يفرج فيه عن جميع الرهائن المتبقين في القطاع. وفي المقابل يعارض 21 بالمئة من الإسرائيليين مثل هذه الصفقة.
وأظهر الاستطلاع، الذي أجرته القناة 12 الإسرائيلية، أنه حتى بين أنصار الائتلاف الحاكم في إسرائيل، أيدت أغلبية بنسبة 54 بالمئة مثل هذه الخطوة، مقارنة بمعارضة 32 بالمئة لوقف الحرب مقابل عودة الرهائن.
ولقد باتت إدارة ترامب تدرك مدى خطورة الأزمة في غزة، إلا أنها مثل إدارات أمريكية كثيرة سابقة تختار التركيز على أعراض المرض بدلًا من علاجه. والجميع يدرك أن المرض هو الاحتلال، والعلاج هو إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية.
والتجربة التاريخية تقول إن تجاهل ذلك هو وصفة مؤكدة لتفجر القتال من جديد، واستمرار الفوضى وعدم الاستقرار، وإعادة إنتاج "طوفان الأقصى"، والانتفاضة، والمقاومة، وأغلب الظن أننا نتجه بقوة للكفاح المسلح، وتحول الصراع إلى صراع ديني، وسيطرة التطرف والعنف بدلًا من الحل السلمي.
هذه حتمية التاريخ، وقصص التحرر الوطني. وبالتالي القصة ليست "التخلص من حماس"، بل حقوق الشعب الفلسطيني في الحياة وتقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة.
أما "شطحات خيالية" من عينة إبادة جماعية، وتهجير قسري أو طوعي، أو تصفية القضية فهي كلها أوهام. وبالتداعي محاولات ابتزاز الدول العربية لإنهاء القضية الفلسطينية بيدها هي، بعدما عجزت إسرائيل وأمريكا.. هي أيضًا "وصفة غير قابلة للتحقق". فالقضية موجودة منذ زمن بعيد، ولم يتمكن أحد من فرض أي حل غير عادل ناهيك عن خيالات أحلام الظهيرة.
على أي حال فإن ويتكوف مبعوث ترامب للمنطقة يتعرف على الأمور المعقدة في الشرق الأوسط، وأبدى في حوار صحفي مؤخرًا مخاوفه من تداعيات الأزمة. ويخشى مبعوث ترامب أن تنعكس أزمة غزة على أمن المنطقة واستقرارها، وأن تهدد الدولة المصرية، وتتسبب في غضب شباب السعودية.
ولقد نسي وربما أخطأ في عملية التقدير لتداعيات الأزمة ما بين إقصاء قيادات «حماس» ومسئوليها، وإبعاد مليوني شخص من سكان القطاع. بالقطع فإن القيادات السياسية تجيء وتذهب بل تموت ويتم اغتيالها، ولكن الشعوب لا تفنى، ولا تقبل أن ترحل.
ولقد بدأ بعض سكان غزة في رفع أصواتهم، وقرروا أن هذه اللحظة هي وقت "الجرأة على الكلام". وما كان يتردد همسًا، أو يثقل على صدورهم، أو يطاردهم بأسئلة صعبة تؤرقهم، وتعذب ضمائرهم، وتقمعهم من داخلهم.. كل هذا تبدد في لحظة قرر البعض من أهل غزة أن يكسروا "جدران الصمت"، لقد قالوا بوضوح إنه حان وقت الحياة لا الموت، وأنهم ليسوا أرقامًا، وأن الشعب الفلسطيني أهم من حماس، ووفقًا لتقديرهم فإن اللحظة المأساوية الراهنة لا تحتمل أن يتم إبادة أهل غزة حتى تبقى حماس على قيد الحياة. هذا هو المشهد الذي رأيناه مؤخرًا ويقول إن مصير حماس وقادتها على المحك.
ويبقى أن الأزمة الفلسطينية سمحت للكثيرين باستغلالها والتربح منها، ومنهم قادة أمريكا، ولكن رحل كل هؤلاء وبقيت القضية بعناد ترفض الغياب. ومثلما حدث من قبل فإنه في هذه الأزمة كثيرون يريدون الانتفاع من ورائها. ترامب يريد نوبل للسلام، والحفاظ على سمعته "ملك الصفقات"، وفي وسط الزحمة يتملك ترامب وأصدقاؤه ملوك العقارات "ريفيرا الشرق الأوسط" في غزة، بعد تنظيفها من البشر والحجر بأيدي الآخرين.
وفي الوقت نفسه يريد نتنياهو التهرب من محاسبته على تهاونه مع «حماس»، ومعسكر «حماس» يريد إنقاذها. أما القول بأن مصر ستنهار، ومجتمعات الخليج ستضطرب، والمنطقة ستشتعل، ومصالح واشنطن ستصبح في خطر، فهي تحليلات سياسية جزئيًا صحيحة باستنتاجات مضللة.
ويرى الكاتب السعودي الكبير عبدالرحمن الراشد في مقال أخير له بصحيفة الشرق الأوسط "أن لدينا تاريخًا لأكثر من نصف قرن، وسجلاً حافلاً بالأزمات يبرهن خطأ كل هذه الطروحات". ويتفق الراشد مع ويتكوف بأن كل الدول متضررة من الحروب والفوضى التي تعم المنطقة ومصلحتها جميعًا دعم السلام.
إلا أن الراشد يختلف معه بشأن تداعيات أزمة غزة، فهي لن تتسبب في اندفاع الشباب إلى الشوارع، ولم ولن تهدد أمن مصر واستقرارها وغيرها. ويقول الراشد قد نشهد أزمة سياسية مع مصر، لو قررت واشنطن أو إسرائيل تهجير مليوني غزاوي عبر حدودها".
ومرة أخرى تبرهن واشنطن والإدارات الأمريكية المتعاقبة أنها لا تدرك مدى العمق الحضاري لدول المنطقة العريقة والقديمة بالمنطقة مثل مصر، وأن الشعب والقيادة السياسية والنخبة جميعها متحدة في موقفها من قضية فلسطين وحرب غزة، وكل هؤلاء يرفضون أي شيء يمكن أن يهز الدولة المصرية، ولا يوجد حاليًا ما يمكنه أن يزعزع الدولة، كما أن المصريين احتضنوا في داخل مصر الكثيرين من اللاجئين من دول الحروب؛ مثل السودان وسوريا واليمن وليبيا والعراق والوضع مستقر، والمؤسسة المصرية راسخة، وهم يدركون أنهم عابرون، ومثلما عاد العراقيون والليبيون فإن الآخرين سوف يرحلون هم أيضًا قريبًا. أما تصفية القضية الفلسطينية فلن تحدث؛ سواء بالترغيب أو التهديد أو الخوف المصطنع، ولا حل سوى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي.