الشفافية هى قبس من نور يمنحه الله لك، يحل بروحك دون أن تدري، يسكن بها فيصبح كالمياه العذبة رقراقًا بينابيع نقائك يجري، تمنحك من نورها بصيرة تمر بمياهك -تسري- لقد منحك الله إياها حين عرفته، حين آثرت البقاء بقربه مؤتنسًا به، تاركًا له كل أمرك جله وبعضه، أوله وآخره مطمئنًا بذلك مقيمًا داخل محراب تعبده، مخلصًا له في عبادته تراقبه في كل لحظة إقدام على أي قول أو عمل، راجيًا رضاه، مدركًا لقدره وجلاله، مقدسًا له معظمًا لشعائره.
لتجد نفسك من بعد تلك المنحة الربانية ترى بنوره، تحس بما يدور حولك، تدرك ما يصعب على غيرك فهمه أو إدراكه، تقرأ ما بين سطور هؤلاء المتربصين بك، هؤلاء الذين جفت ينابيع مشاعرهم، تستمع لحديثهم من قبل أن ينطقوا به، تبحث بداخلك عن أسباب حقدهم فلا تجد، تتعجب من أمرهم، متسائلًا: "ما ذنبي إن كان ربي قد حباني من فضله ما شاء لي به؟ ليتهم يذكرون لك السبب.
فطنة إيمانية دفعتك أن تأخذ قرارك الذي ارتأته الأفضل لك، بعيدًا عن نزاع وعن جدل، بصيرة حادة حذرتك من هؤلاء الذين يؤرقهم نجاحك، تزلزلهم خطوات تقدمك، هؤلاء الذين تنفطر قلوبهم إذا ما رأوك تحقق مجدًا، فتأكلهم نيران حقدهم، تزداد اشتعالًا كلما لمحوا لك ظلًا متهاديًا مقبلًا أمامهم، لذا فهم أتقنوا فن النفاق، تدربوا عليه سويًا في جلسات نميمتهم مع كل من أضمر لك الشر مثلهم، عاثوا فسادًا بأرضك، كالوا لك الكره كيلًا، ثم صبوه عليك صبًا بلا جريرة ودون ذكر لأي سبب.
أراك تتقلب على أشواك الحيرة، أسمع حديث نجواك عندما تحدثهم عن ثقة بربك تملأ أرجاء روحك، تطمئنك وتغمرك بإيمان لا حد له، تدعهم سرًا بألا يوجهوا اللوم إليك بعد الآن، لأنك ستفعل ما تراه مناسبًا لك على الفور؛ أتفق معك فهل من المعقول أن تظل بجانب من حملوا لك كل هذا القدر من الضغينة خاصة بعد أن اتضحت لك نواياهم؟
أبلغهم بأن أمر مغادرتك أصبح حتميًا وشيكًا، وأن أمرك لم يعد بيديك بل لله قد تركته، فهم من ضيقوا الخناق عمدًا من حول رقابهم، حاصروك بحسد من عند أنفسهم، مزجوا حقدهم هذا بمزيد من مزيج الغل والحسد، وإن عاتبوك يومًا أخبرهم بأن إعراضك عنهم لم يكن بالشيء الهين السهل، وبأنك ما كنت تتوقعه لحظة أو تسعى إليه، أعلم أنك ستهجرهم هجرًا جميلًا يليق بنقائك فهذا هو أضعف الإيمان لديك.
كم كنت تكذب نفسك حين كانت تجادلك فيهم، في مقدار محبتهم الزائفة، كنت تختلف معها كثيرًا كلما أشارت عليك بأمر الابتعاد عنهم، حتى أنك أصبحت تمقت شفافيتك التي أنزلتهم منازلهم، والآن سوف تعيدهم غرباء كما كانوا، لقد قررت اعتزالهم مدركًا أنك تحيا في زمن الفتن.