ليست كل الحقائق تروى، وليست كل الأكاذيب تكشف، لكن بعض الأسرار تظل تطفو كالزيت فوق الماء، ترفض الغرق في بحر النسيان. هنا، في رفوف المكتبات الأوروبية العتيقة، بين صفحات المخطوطات العربية المغبرة، تكمن جريمة سرقة ممنهجة، جريمة اغتيال التاريخ وإعادة كتابته بأيد ملطخة بدماء الإنجازات العربية.
لم تكن النهضة الأوروبية إلا طفلاً لقيطًا ولد من رحم العلم العربي، فما الذي حدث؟ كانت سفن الغرب تنقل من بلاد العرب آلاف المخطوطات في الطب والفلك والفيزياء، ترجمت في الخفاء، درست في الجامعات، ثم نسبت لأسماء أوروبية ببرودة دم. لم يكن الأمر مجرد اقتباس أو إلهام، بل كان استيلاءً بواحًا على تراث علمي هائل، وإعادة تدويره تحت راية «العبقرية الأوروبية».
خذ مثلاً قصة الدورة الدموية الصغرى، التي ينسب اكتشافها للإنجليزي ويليام هارفي، بينما الحقيقة أن ابن النفيس شرحها بتفاصيل دقيقة في كتابه «شرح تشريح القانون» قبل قرون، وكأن التاريخ يعيد نفسه مع كل اكتشاف. لكن اللعبة الكبرى تتجلى في إسحاق نيوتن، الرمز المقدس للفيزياء الكلاسيكية، الذي تحولت قوانينه إلى مثال صارخ على القرصنة الفكرية الممنهجة.
القانون الأول: السكون والحركة
عندما قال نيوتن إن الجسم يبقى ساكنًا أو متحركًا ما لم تؤثر عليه قوة خارجية، كان يردد بلسان عربي ما قاله ابن سينا قبله بقرون: «إن الجسم إذا خلي وطباعه، ولم يعرض له تأثير غريب، لم يبد له بد من موضع معين». هل يحتاج العقل إلى أكثر من هذه العبارة ليرى التشابه المطابق؟ إنها ليست صدفة، بل مخطط لإخفاء الأصل العربي للفكرة.
القانون الثاني: القوة والتسارع
أما قانون القوة والتسارع، فقد سبقه فيه فخر الدين الرازي حين أكد أن اختلاف حركة الأجسام يعود إلى اختلاف القوة المحركة، لا إلى طبيعة الأجسام ذاتها. كلماته كانت الشرارة الأولى لفهم العلاقة بين القوة والتسارع، لكنها سجلت لاحقًا باسم نيوتن، وكأن الزمن العربي لم ينشأ إلا ليدفن تحت أنقاض التاريخ الأوروبي.
القانون الثالث: الفعل ورد الفعل
حتى القانون الثالث، الذي ينص على تساوي الفعل ورد الفعل، نجد جذوره في نص الرازي عن الحلقة التي يجذبها جاذبان متساويان، فتصير الحركة محصلة صراع القوتين. لم يبتكر نيوتن سوى إعادة صياغة الأفكار العربية بلغة رياضية، بينما الجوهر بقي عربيًا خالصًا.
اليوم، تتكشف الحقائق كالشمس. مخطوطات أوكسفورد التي تحمل هوامش بخط يد ترجمت فيها النصوص العربية إلى الإنجليزية خير دليل. الغرب نفسه بدأ يعترف بأن «العبقرية الأوروبية» كانت في الحقيقة عبقرية عربية مقنعة. فهل آن الأوان لتدفن أسطورة النهضة الأوروبية المستقلة، وتظهر حقيقة جديدة تعيد للعرب مكانتهم كأصحاب الإرث العلمي الحقيقي؟
الوجه الآخر للقمر
قوانين نيوتن ليست سوى غيض من فيض. فما حدث كان عملية تشريح منهجية للعقل العربي، تنزع منه الأفكار كالأحشاء، وتعلق على جدار المجد الأوروبي كغنائم حرب. حتى الرياضيات، لغة الكون الصامتة، لم تسلم من هذه الآلة الجشعة. فما يعرف بـ "خوارزميات" الحاسوب الحديث هي في الأصل نسبة إلى العالم الخوارزمي، الذي وضع أسس الجبر وكتب بالأرقام العربية التي حورها الغرب لاحقًا إلى "الأرقام اللاتينية"، وكأنهم يمحون حتى الاسم من على جبين المعرفة.
وحين نتحدث عن البصريات، فإن ابن الهيثم كان أول من حطم خرافة "العين ترسل أشعة"، ووضع أسس البصريات الحديثة في كتابه "المناظر"، الذي ترجم سرًا إلى اللاتينية، واعتمد عليه روجر بيكون وليوناردو دافنشي، بينما ظل اسم العربي غائبًا كشبح يطارده المجد الزائف.
السرقة المقدسة:
حتى الكيمياء، التي تحولت إلى "كيمياء" غربية، كانت في الأصل علمًا عربيًا خالصًا. جابر بن حيان، أبوالكيمياء، وضع التجربة أساسًا للعلم، وقاوم السحر بالمنهج، لكن الغرب أخذوا أبحاثه ووصفوها بـ "الكيمياء القديمة"، بينما نسبوا لأنفسهم تحويلها إلى "علم حديث". إنها لعبة أزلية: يسرقون الجذور ثم يدهنون الشجرة بألوانهم.
شعلة عصر النهضة عربية..
لم تكن كتب العرب مجرد مراجع، بل كانت شعلة أحرقت ظلام العصور الوسطى الأوروبية. ففي حين كانت أوروبا تغط في سبات ديني، كان علماء العرب يبنون المراصد ويحسبون مدارات النجوم، ويجرون عمليات جراحية معقدة، ويرسمون خرائط الأرض قبل كولومبوس بقرون. لكن السردية الأوروبية حولت هذا النور إلى "معجزة يونانية" معاد إحياؤها، وكأن العرب كانوا مجرد جسر عابر، لا أصحاب حضارة راكمت المعرفة بحبر العقل والروح.
الحقيقة المحرقة أن أوروبا العجوز ترتدي ثوب الحضارة، بينما جسدها مغطى بندوب القرون الوسطى. لم تكن نهضتها إلا انعكاسًا لأضواء الشرق التي اخترقت ظلامها. لكنها اليوم ترفض حتى إضاءة شمعة الاعتراف، خوفًا من أن ينهار تمثالها الذهبي المزيف.
التناقض يصل ذروته حين تدين أوروبا الإسلام بالتخلف، بينما تقف على أطلال جامعاته ومكتباته التي أحرقها الصليبيون في القدس ودمشق. كيف تتهم من علمك صناعة الورق والبارود والجبر بأنه بربري؟ هل نسيت أن كلمة "كيمياء" نفسها عربية، وأنك تدين لها بكل مختبراتك الحديثة؟
الجهل المتعمد بالتاريخ هو وقود الكراهية المعاصرة. لو عاد شارلمان من قبره لصدمه منظر أحفاده وهم يسبون الحضارة التي استعار منها نظام التعليم والقضاء. لو رأت الملكة إليزابيث الأولى كم سرقت من فنون الدولة العثمانية في هندسة سفنها، لبكت خجلًا.
النار التي تحرق جسور الحوار اليوم هي نفسها التي أحرقت مكتبة الإسكندرية مرتين: مرة باللهب، ومرة بالصمت. لكن رياح التاريخ لا تطفئها الأكاذيب. فشتان بين من يبني حضارة على التنوع، وبين من ينحت صورة التفوق فوق جماجم الآخرين.
العالم يتغير، والأسئلة الملتهبة تفرض نفسها: متى تزيح أوروبا غبار العنصرية عن متاحفها التي تعرض مخطوطاتنا كغنائم حرب؟ متى تقرأ أسماء العلماء المسلمين دون تشويه أو اختصار؟ التاريخ لن يرحم من يحرفون مساره. فالحضارة إرث بشري جامع، أو هي ليست حضارة.
السؤال الأهم: كم من الحقائق ما زالت مدفونة تحت ركام التزوير؟ وكم من المجد العربي سلب ليزين تيجانًا ليست أهلاً له؟ إنها معركة إثبات الوجود، معركة استعادة الذاكرة، فالتاريخ لا يرحم إلا من يكتبه.
[email protected]