بعد رمضان.. اغلق أبواب الخسائر في الدنيا والدين

29-3-2025 | 12:07

كيف سيرد أي واحد منا عندما يرى من يتخلص من ثروة بذل جهدًا كبيرًا حتى يفوز بها؛ ليبدأ من الصفر؟ ألن نستنكر بغضب فعلته وإيذاءه لنفسه ونقول له: كيف تفعل بنفسك ما لا تسمح بأبشع عدو لك بفعله؟ كيف هانت عليك ثروتك لتضيعها؟ ولماذا لا تسعد نفسك بها وتحتضنها بحب وتزيدها بتدرج وتمنع تناقصها؟ مع الأسف الشديد، هذا ما نفعله جميعًا -بدرجات متفاوتة بالطبع- بالكنوز التي اقتربنا منها أو رزقنا الرحمن بالفوز ببعضها في رمضان؛ فما إن ينتهي الشهر الكريم حتى ننفض أيدينا منه، ولا ننتبه إلى أننا نتسبب بالعودة إلى الخسائر في الدنيا والدين والتي توقفنا عنها أو عن بعضها في رمضان.. مثل العصبية الزائدة والاستسلام لاستفزازات الآخرين وسرعة الغضب أو الرد بكلام غير لائق والنميمة ومراقبة عيوب الآخرين، وتوهم أننا أفضل بدلًا من السجود شكرًا للرحمن؛ فوحده الذي عافانا وكما قيل -عن حق- رب معصية أورثت ذلًا وانكسارًا فأدخلت صاحبها الجنة، ورب طاعة أورثت صاحبها عجبًا وكبرًا فأدخلته النار..

وهذه ليست دعوة بالطبع إلى تقبل المعصية لدى النفس أو عند الآخرين، فلابد من تجديد رفضها حتى لا نفعلها ولو بعد حين والعياذ بالله، فالمقصود هو طرد الاغترار بالطاعة، وشكر الرحمن الذي شرفنا بها والدعاء للنفس وللغير بالهداية ودوام نعمة الطاعة وزيادتها والعيش بها والموت عليها. يقول الله عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون". والتقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل؛ كما قال الإمام علي كرم الله وجهه. 

فالصيام تدريب على التقوى في كل تفاصيل الحياة والانتباه عندما نبتعد عنها ونسارع بالعودة إليها. نردد جملة: "اللهم إني صائم" بقلوبنا قبل ألسنتنا في نهار رمضان خوفًا من إضاعة ثواب الصيام، وحتى لا يكون نصيبنا منه الجوع والعطش فقط.. ومع الأسف، يختار الكثيرون والكثيرات من كل الأعمار العودة للتفكير والتصرف بما يضايق الآخرين، والرد بعدوانية وغلظة على أي تصرف وأحيانًا ترديد الشتائم التي يخسر من يفعل ذلك في الدين والدنيا؛ فالرسول صلوات الله وسلامه عليه قال: "ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء". فلماذا يختار البعض حرمان نفسه بإرادته من نعمة الإيمان؟ وفي الدنيا سيخسر أيضًا فقد يجني بعض المكاسب المؤقتة بالشتائم؛ ولكنه سيضطر إلى مضاعفتها أو اتخاذ وسائل أكثر حدة وعدوانية لاحقًا؛ فسيعتادها من يتعاملون معه وربما ردوا بالأسوأ؛ إن استطاعوا، أو سيفكرون في النيل منه بوسائل أخرى.. ومن المؤكد أن في ذلك إهدارًا للطاقات وخسارة للصحة الجسدية بالاستسلام للغضب وإضاعة للهيبة؛ والتي تعني التصرف بحزم والردع بأقل كلمات مع عدم الانحدار إلى مستوى لا يليق بالمؤمن أليس كذلك؟ من الخسائر أيضًا العودة بعد رمضان إلى الانقطاع عن صلة الرحم، وكأنها مخصصة لرمضان فقط وليس طوال العمر؛ والبخل عن الاهتمام ولو بالاتصال الهاتفي من حين لآخر واحتساب الأجر كاملًا عندالرحمن؛ وفي ذلك فليتنافس الأذكياء.

من أكثر الخسائر انتشارًا توهم أننا أدينا ما يجب علينا فعله في رمضان، وتجاهل أن العبادة الحقيقية تعني حضور القلب، وحضور الذهن، والتدبر؛ كما قيل عن صدق.. ولا أحد منا جميعًا يستطيع الزعم أنه كان حاضرًا بقلبه وبذهنه ومتدبرًا في كل صلاة في رمضان وعند قراءة القرآن الكريم.. فلا أحد منا فعل ذلك؛ لأننا بشر ولسنا ملائكة؛ وهذا لا يعني الاجتهاد للفوز بالمزيد من حضور القلب والذهن والتدبر في كل العبادات، والمزيد من مراقبة نوايانا وتطهيرها من كل الشوائب التي لابد أن تتسلل إلى قلوبنا قبل عقولنا لإفساد أعمالنا وإضاعة ثوابها الذي نحتاجه بشدة؛ فربما كان وسيلة النجاة من النار والفوز بالسعادة في الدارين كما نتمنى جميعًا لأنفسنا ولمن نحب.. يقال حقيقة الصوم ترك كل شيء سوى الله سبحانه وتعالى؛ أي أن تكون نوايانا وأفعالنا وتفكيرنا خالصًا لوجه الله عز وجل.. 

ونكاد نسمع من يقسم بأنه صام مخلصًا للرحمن؛ وهو صادق، فكان بإمكانه تناول الطعام والشراب بعيدًا عن أعين الناس، ولم يفعل وكذلك فعل كل الصائمين. ونتساءل: هل من المنطقي أن ننجح في امتحان في شهر واحد كل عام، ثم ننتظر ونتوقع الفوز بأعلى الدرجات؟ أليس النجاح متواصلًا وتراكميًا ويضاعف بعضه؟ وأليس أن ما لا نزيده بوعي ومثابرة سيتناقص في غفلة منا؟ ولماذا نحرص على المكاسب خلال شهر رمضان؟ ونهتم بالعبادات بداية من تجديد نية الصيام، والحرص على التعامل بلطف مع الناس، والانتباه لأوقات الصلاة والسعي للتركيز فيها، وقراءة ما تيسر من القرآن الكريم بتدبر وليس بسرعة من يريد أن يحقق رقمًا لم يسبقه إليه أحد؛ فالعبرة بما يستقر في القلب وينير عمر صاحبه ويحسن تصرفاته مع نفسه ومع الآخرين وأن يتعلم الصبر وفي قلبه وعقله الآية الكريمة: "والله يحب الصابرين". 

وندعو لتدبر الآية الكريمة: "لئن شكرتم لأزيدنكم"؛ ولنتسابق مع أنفسنا في تجديد الشكر للرحمن الذي رزقنا بفضله الحياة وشرفنا بالصيام هذا العام والأعوام السابقة، ولتكن نيتنا دوام الصيام عن كل ما يغضب الرحمن منا في النوايا، والتفكير، والتصرفات، والإقبال بحب ورضا ومثابرة على احتضان بالقلوب وبالعقول كل ما يقربنا للرحمن من نوايا طاهرة وتفكير نقي وأعمال صالحة.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: