في خضم الحرب الدائرة في قطاع غزة بين حركة حماس والكيان المحتل، برزت بالأمس دعوات من بعض العشائر والقبائل في القطاع لـ"جمعة الغضب"، في توقيت يتزامن مع إعلان حماس "النفير العام" .. هذا التباين في الخطاب والتحركات يثير تساؤلات حول طبيعة العلاقة بين حماس والمكونات الاجتماعية التقليدية في غزة، وما إذا كان ذلك يعكس تراجعًا في شرعية الحركة أو انقسامًا داخليًا في ظل الضغوط العسكرية والاقتصادية الهائلة التي يتعرض لها القطاع. وهو الأمر الذي يثير ثلة من التساؤلات؛ هل تشهد حماس تراجعًا في سيطرتها على غزة؟ وهل تعكس دعوات العشائر استياءً شعبيًا متزايدًا من أداء الحركة؟ وما هي التداعيات المحتملة لهذه التطورات على مستقبل الصراع الفلسطيني مع الكيان المحتل وعلى المشهد السياسي الداخلي في غزة؟
أولًا: السياق التاريخي والسياسي لحماس في غزة
1. صعود حماس وسيطرتها على غزة.
استطاعت حركة حماس، منذ تأسيسها في أواخر الثمانينيات، أن تبني قاعدة شعبية واسعة في غزة بفضل شبكتها الخدمية والدعوية، إضافة إلى أدائها العسكري في مواجهة جيش الاحتلال، وبعد فوزها في الانتخابات التشريعية عام 2006، دخلت في صراع مع حركة فتح، انتهى بانفرادها بالسلطة في غزة عام 2007 بعد معارك دامية. منذ ذلك الحين، حكمت حماس القطاع بقبضة أمنية وسياسية شديدة، معتمدة على أجهزتها الأمنية وانفردت به ورفضت كل التدخلات لتوحيد الفصائل وتراجعت عن كل التوافقات وأفشلت كل الجهود لرأب الصدع الفلسطيني الداخلي، معتمدة في ذلك على شبكة العلاقات الاجتماعية مع العشائر والعائلات الكبرى، والتي كانت دائمًا جزءًا من معادلة الحكم في غزة.
2. العشائر والقبائل في غزة، لعبت العشائر والعائلات الكبرى في غزة دورًا محوريًا في الحياة الاجتماعية والسياسية، حيث كانت بمثابة وحدات سياسية واجتماعية تمتلك نفوذًا واسعًا. فبعض هذه العائلات، كانت داعمة تاريخيًا لحماس، بينما أخرى كانت أقرب لفتح أو لفصائل أخرى. ومع ذلك، فإن العلاقة بين حماس والعشائر لم تكن دائمًا متناغمة. ففي بعض الأحيان، حدثت احتكاكات بسبب سياسات حماس الأمنية أو توزيع الموارد، لكن الحركة استطاعت عادةً إدارة هذه العلاقات عبر آليات المحاصصة والترهيب والترغيب.
ثانيًا: الأسباب والدلالات لدعوات العشائر لـ"جمعة الغضب":
1. طبيعة الدعوة والسياق الزمني
في ظل استمرار الحرب على غزة منذ أكتوبر 2023، والمعاناة الإنسانية غير المسبوقة التي يعيشها السكان، ظهرت دعوات من بعض شيوخ العشائر لـ"جمعة الغضب"، وهي تسمية تحمل دلالات الاحتجاج. هذه الدعوات جاءت بالتزامن مع إعلان حماس "النفير العام"، مما يوحي بوجود حالة من التباين في الرؤى بين القيادة السياسية والعسكرية للحركة وبين بعض القوى الاجتماعية المؤثرة.
2. الأسباب المحتملة للدعوة
الاستياء الشعبي المتزايد، وذلك مع استمرار العمليات العسكرية لجيش الاحتلال بعد نقض إتفاق وقف إطلاق النار وتزايد الغارات، وارتفاع عدد الضحايا، وتدهور الأوضاع المعيشية، حيث بدأ بعض السكان يعبرون عن سخطهم ليس فقط تجاه الكيان المحتل، ولكن أيضًا تجاه حماس، وهنا يمكن تلمس تزايد الوعي الفلسطيني بالمسئولية المشتركة لطرفي النزاع عما آلت إليه أوضاع الشعب الفلسطيني وما يتعرض له من مخاطر نكبة جديدة تنذر بتصفية القضية وفقًا للمخطط الشيطاني لحكومة الاحتلال المصغرة التي يسيطر عليها اليمين المتطرف.
- الخلافات حول إدارة الحرب، حيث بدأ توارد تقارير تشير إلى وجود خلافات داخلية في غزة حول استراتيجية المواجهة، حيث يرى بعض العشائر أن حماس تتحمل مسؤولية التصعيد الذي أدى إلى الكارثة الإنسانية الحالية.
بالتالي، تعكس هذه الدعوات تحركًا شعبيًا حقيقيًا، وقد تكون مؤشرًا على تراجع شرعية حماس في غزة. ومع ذلك، من المبكر الجزم بذلك، لأن حماس لا تزال تمتلك أجهزة أمنية قوية وقدرة على قمع أي تمرد داخلي.
ثالثًا: إعلان حماس "النفير العام": بين التحدي واليأس:
1. معنى النفير العام وأهدافه، يعد إعلان النفير العام بمثابة استدعاء لكل القادرين على القتال للمشاركة في الحرب سواء مع الكيان أو لقمع التمرد الداخلي، وهو إجراء يعكس محاولة حماس تعبئة كل الطاقات لمواجهة عمليات جيش الاحتلال من جهة، وتهديد لأي تمرد داخلي من جهة ثانية، ومحاولة لتصدير الأزمة في الدوائر المجاورة من جهة ثالثة، لكن هذا الإعلان أيضًا قد يكون مؤشرًا على أن الحركة تواجه نقصًا في المقاتلين أو تحتاج إلى دعم شعبي أوسع من الرأي العام في دول الجوار والمحيط الإقليمي والصعيد الدولي خاصة مع استهداف جيش الاحتلال لرموز كبرى في الحركة وآخرها المتحدث الرسمي لها فجر اليوم.
2. هل النفير العام يعكس ضعفًا؟، يرى بعض المحللين أن هذا الإعلان قد يكون دليلًا على أن حماس تخسر السيطرة على الأرض، وأنها في مرحلة دفاع يائس. لكن آخرين يرون أنه تكتيك لرفع تكلفة الحرب على الكيان عبر إشراك المزيد من المقاتلين.
رابعًا: التداعيات المحتملة:
1. على الصراع الفلسطيني مع الكيان المحتل.
- إذا اتسعت الفجوة بين حماس والعشائر، قد تفتح الباب أمام قوى أخرى لملء الفراغ، سواء كانت فتح أو فصائل أخرى أو حتى قوى محلية جديدة من التكنوقراط.
- الكيان المحتل من جهة أخرى، قد يستغل هذا الانقسام لمحاولة فرض تسوية سياسية أو عسكرية جديدة في غزة.
2. على المشهد الداخلي الفلسطيني.
- قد تشهد غزة صراعات داخلية إذا حاولت العشائر تحدي سيطرة حماس، وهو الأمر الذي ينذر بمواجهات دامية.
- قد يؤدي الضغط الشعبي من جهة أخرى وفقًا لتقديرات تشير إلى حدوث تغيير في التوجهات التفاعلية لقيادة حماس، ومن ثم في سياستها.
- من السابق لأوانه القول إن حماس على وشك الانهيار، لأنها لا تزال تمتلك هياكل تنظيمية وعسكرية قوية. لكن التحديات التي تواجهها غير مسبوقة، وقد تضطر إلى إعادة تشكيل تحالفاتها أو حتى قبول صيغة سياسية جديدة.
خامسًا: السيناريوهات المحتملة لمستقبل حماس في غزة:
في ظل هذه التطورات، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمستقبل سيطرة حماس على قطاع غزة منذ ٢٠٠٧:
1. التصعيد الأمني وقمع الاحتجاجات:
• إذا قررت حماس استخدام القوة المفرطة لقمع الاحتجاجات، فقد تتمكن من احتوائها مؤقتًا، لكنها ستدفع ثمنًا باهظًا من حيث فقدان المزيد من الشرعية الشعبية.
• هذا السيناريو قد يؤدي إلى مواجهة طويلة الأمد بين حماس والعشائر، ما قد يخلق حالة من الفوضى الداخلية.
2. تقديم تنازلات سياسية واقتصادية:
• قد تحاول حماس امتصاص الغضب الشعبي عبر تقديم بعض التنازلات، مثل تحسين الخدمات الأساسية أو إدخال إصلاحات سياسية محدودة استجابة للضغوط الشعبية والتفاهمات مع الوسطاء الإقليميين والدوليين.
• لكن إذا لم تكن هذه التنازلات كافية، فقد تتواصل الاحتجاجات التي بدأت حتى إسقاط حكم الحركة.
3. انهيار حكم حماس وصعود بدائل جديدة:
• في حال فقدت حماس السيطرة بالكامل، فقد نشهد تدخل قوى فلسطينية أخرى، مثل السلطة الفلسطينية أو فصائل أخرى، لملء الفراغ السياسي في غزة.
في النهاية، ينبغي أن ندرك أن دعوات العشائر في غزة لـ"جمعة الغضب" مقابل إعلان حماس "النفير العام"، تعكس تحولًا دقيقًا في المشهد السياسي والاجتماعي في القطاع. بينما لا تزال حماس قوية عسكريًا وأمنيًا، فإن الضغوط الشعبية والعسكرية قد تدفعها إلى مراجعة سياساتها. وإذا ما تساءلنا هل يمكن أن تؤدي هذه التطورات إلى تغيير جذري في موازين القوى في غزة؟ الإجابة تعتمد على قدرة حماس على إدارة الأزمة الداخلية، وعلى مدى استعداد العشائر للمواجهة، وعلى الدور الذي قد تلعبه الأطراف الإقليمية والدولية في المرحلة المقبلة.
فلسطين تعيش واحدة من أصعب لحظاتها التاريخية، والمشهد معقد للغاية، وينبغي على جميع العقلاء التجاوب مع الطرح الاستراتيجي الشامل لمخطط التعافي وإعادة الإعمار في غزة الذي تقدمت به مصر، وأقر عربيًا في القمة العربية الأخيرة على مستوى القادة التي انعقدت بالقاهرة، ينبغي احترام إرادة الشعوب والكف عن دعم مزايدات حنجورية لميلشيات وحركات مسلحة لطالما هدمت دولًا وطنية كبرى في الوطن العربي ودمرت مقدراتها وأهدرت كل فرص التنمية والبناء والتعاون. ينبغي على الجميع التفكير الرشيد في هذه اللحظة المفصلية للقضية الفلسطينية.
فإدارة هذه اللحظة بعقلانية وبخطاب مختلف موجه لدول العالم، بما يحترم قواعد القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، ويعمل على تطبيق قرارات الشرعية الدولية لتسوية الصراع العربي مع الكيان المحتل، ولا يعتمد على الصوت العالي المزايد وتبني التطرف والعنف قد يمثل الفرصة الأخيرة قبل إنفجار الصراع وتمدده إقليميًا.
إن حل تعقيدات المشهد الفلسطيني الداخلي يتطلب إرادة سياسية حقيقية للخروج من دائرة الانقسام الذي خلفه صراع الفصائل وبناء مؤسسات شرعية عبر انتخابات ديمقراطية، إلى جانب تبني رؤية وطنية شاملة قادرة على مواجهة التحديات. بدون ذلك، سيبقى الوضع الفلسطيني هشًا، وعرضة لمزيد من المخاطر والتهديدات.