لا شك أن اختلاف الذوائق أمر صحي، خصوصًا فيما يتعلق بالمحتوى والقالب الفني أو بالفنون جميعًا، لكن هذه الحقيقة لا تبرر الاستسهال وانعدام المعايير، كمنهجية أصيلة في الاحتكام إلى رأي ناقد وناصح. أفكر في ذلك بينما أُجري مقارنة ظالمة ومجحفة بين ما يتلقاه المشاهد الآن مما يُسمى ظلما وعدوانا "دراما رمضان"، والدراما الحقيقية التي عرفناها وشاهدناها ربما في عقود مضت، فأثرت فينا، وانطبعت في ذاكرتنا، وظلت معنا حتى أننا نحفظ تفاصيل كثيرة منها وجملا وعناوين لأعمال صارت أيقونات، وموسيقى تصويرية وأغاني تترات خالدة، واسماء أبطال استشعرنا قربهم منا وأنهم أفراد من أسرنا وأصدقائنا وأحيائنا التي نعرفها.
غير أن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: لمَ ظلت تلك الأعمال الدرامية جزءًا من تكويننا واستمرت مع ذاكرتنا إلى الآن، ولما انطبعت في أرواحنا فتعلقنا بها كل هذا التعلق وامتدت عبر اجيال؟ الإجابة في تقديري هي الاحترام والمصداقية والموهبة الحقيقية والتعب، نعم التعب النبيل الذي كان يبذله هؤلاء العظام، لأنهم احترموا مُشاهدهم، وآمنوا بقضيتهم، فلم يبخلوا بقدراتهم ومواهبهم لإخراج أفضل الأعمال الدرامية المتكاملة التي تركت أثرًا كبيرًا في كل أنحاء الوطن العربي وما بعده، فكان كل عمل بمثابة العلم الذي في رأسه نار، وما عليك فقط سوى أن تقول ليالي الحلمية، أو أرابيسك، رحلة السيد أبوالعلا البشري، المال والبنون، ضمير أبلة حكمت، المال والبنون، أو رأفت الهجان أو محمد رسول الله، أو هارون الرشيد، وعمر بن عبدالعزيز، وغيرها وغيرها الكثير من تنوع أثرى الدراما بأنواعها تاريخية ووطنية واجتماعية واقعية، ثراء جعل من كل عمل منها أيقونة عصرها والعصور التالية، ذلك لأن الرهان كان على القيمة، لا على فكرة الحصر ونسب المشاهدة.
أتذكر على سيرة القيمة عملا آسرًا ومؤثرًا بحجم مسلسل "الراية البيضا" تأليف المبدع الراحل الكبير أسامة أنور عكاشة، وإخراج الأستاذ محمد فاضل والذي شارك فيه أساطين فن التمثيل في مصر والوطن العربي، القديرة المثقفة الفصيحة سناء جميل، والقدير جميل راتب، وأسماء كبيرة لا تقل أهمية بحجم نبيل الدسوقي ومحمود الحديني وسيد متولي، وأتذكر كيف كان الناس يُهرولون في الشوارع ليلحقوا ببداية الحلقات خشية ألا تفوتهم هفوة واحدة من هذا السحر البديع، وكيف كان أفراد الأسرة يتحلقون حول التليفزيون ليشاهدوا ويطمئنوا ويهللوا لانتصار القيمة في صراعها الإنساني العنيد والأصيل على المادة، ومن المفارقات في هذا العمل أن السيدة الأستاذة الفنانة القديرة البارعة سناء جميل، لم تتورع أو ترفض فكرة أن تؤدي دور الشر وبإتقان كبير جعل المشاهدين يحبون أداء وجمل وتعليقات "فضة المعداوي"، بينما لفظوا مضمون دورها وتمنوا وساندوا وانتظروا انتصار "الدكتور مفيد أبوالغار" الفنان المبدع القدير جميل راتب، أتذكر ذلك ولم يغب عن خاطري، بينما نتابع مذبحة انقلاب المعايير بل وانعدامها، وتشويه وطمس هوية الشارع والحارة والقرية المصرية.
وتكرار هذا النموذج المشوه للبطل الشعبي عاما تلو آخر وفي أكثر من عمل، فهو الذي يتاجر بالمخدرات وهو لص الآثار وهو النصاب وهو المجرم الهارب، ومع ذلك لا يخون أصدقاءه ويحمي أهل منطقته مثلا ومن ثم فهو زعيم المنطقة والآمر الناهي الذي يخشاه الجميع وينتظرون فعله ورد فعله، وهنا يكمن الفخ الأخلاقي للأجيال الجديدة، والمتأثرة بطبيعة الحال بسباق الزمن عبر التكنولوجيا والبرامج الحديثة وألعاب القتال الإلكترونية، وبالتالي فإنها عُرضة للوقوع في شرك التفكير في البطولات السهلة والعنترية والتميز رغم الخواء والثراء السريع وما إلى ذلك، حتى أننا سمعنا عن حادثة اقدم فيها طفل على إصابة أصدقائه بسلاح أبيه، وحين سُئل عن ذلك قال أردت أن أحاكي "فلانا"، وفلانا هذا كان أحد شخصيات مثل تلك الأعمال والتي تبخرت بالمناسبة، وكذلك ما أقدم عليه أشخاص بتجريد رجل من ملابسه وإرغامه على ارتداء ملابس سيدة، وكان ذلك محاكاة لبطل عمل آخر من تلك الأعمال الخاوية، غير أن الواقع ليس بهذا السوء ولا هؤلاء هم نماذج شباب ورجال ونساء الأسرة المصرية والحارة الشعبية المصرية، ليس هذا السطح الأجوف بالقطع، وإنما النماذج الحقيقية للشارع المصري الأصيل والشباب المصريين المكافحين في المجالات كافة وعلى جميع الأصعدة، لا تحتاج إلى بحث عنها لأنها نماذج موجودة والحكايات المصرية الملهم لم ولن تنتهي، لكنها بحاجة إلى صناع مهرة لا مقاولين وتجار، بحاجة إلى فنانين موهوبين لا أصحاب عضلات وأصوات زاعقة وعويل، بحاجة إلى رؤية موضوعية وقضية، لا إلى "اسلق واجري" وأخيرًا بحاجة إلى ضمير متيقظ ومنظومة وطنية تؤمن بهذا الوطن وتوقن به، وتستمد شعلة وقودها من جذوة الآباء والأجداد من صناع الدراما الحقيقيين الذين كانوا يفهمون في المهنة ومتخصصين بها لا مجرد طفيلين لا نعلم من أي وادٍ أطلوا علينا بكل هذا العبث واللا فن، فهل تنتصر الدراما المصرية لمصر والمصريين، أم انها ستظل ترفع الراية البيضاء؟