في قلب الجدل الاقتصادي العالمي، يقف دعم الوقود كمعضلة كلاسيكية بين النمو الاقتصادي والاستدامة البيئية. فبينما يرى البعض أنه ضرورة لحماية الفئات الفقيرة وتأمين استقرار الأسعار، يرى آخرون أنه عقبة أمام التحول نحو الطاقة النظيفة، ومصدر رئيسي للانبعاثات الكربونية. فهل آن الأوان لإعادة النظر في هذه السياسات؟
وقود الاقتصاد أم قيد المستقبل؟
لطالما كان دعم الوقود أداة حكومية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، لكنه تحول إلى عبء متزايد على الميزانيات العامة. في عام 2022، سجل دعم الوقود الأحفوري عالميًا رقمًا صادمًا بلغ 7 تريليونات دولار.
وللتوضيح فإن هذا يعادل 7.1% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. المدهش في الأمر أن هذا الرقم يفوق ما تنفقه الحكومات على التعليم، ويقترب من ثلثي ما يُنفق على الرعاية الصحية.
لكن المفارقة أن هذا الدعم، الذي يهدف إلى حماية المستهلكين، غالبًا ما يفيد الشركات الكبرى والمستهلكين الأثرياء أكثر من الطبقات الفقيرة. فهل الدعم في صورته الحالية عادل فعلًا؟
الدول الأكثر دعمًا.. مفاجآت غير متوقعة
تتصدر الصين قائمة الدول الأكثر دعمًا للوقود، إذ خصصت وحدها 2.2 تريليون دولار لهذا الغرض، تليها الولايات المتحدة (757 مليار دولار)، ثم روسيا (421 مليار دولار)، فالهند (346 مليار دولار) واليابان (310 مليارات دولار).
ليس من المستغرب أن تكون الدول التي تقدم أكبر دعم هي الدول الكبرى المنتجة للوقود الأحفوري، ويمكن أن تزيد هذه الإعانات على 10% من الناتج المحلي الإجمالي.
على سبيل المثال، تتصدر قطر القائمة عالميًا من حيث نصيب الفرد، حيث يحصل كل مواطن نظريًا على 14,100 دولار من دعم الوقود سنويًا.وسجّلت السعودية أعلى دعم بين اقتصادات مجموعة العشرين الكبرى، حيث بلغ نصيب الفرد حوالي 7000 دولار، وذهب معظمه إلى المنتجات النفطية.
بينما تتراوح الأرقام في أوروبا وأمريكا الشمالية بين 100 دولار أو أقل للفرد.
وفي إفريقيا وجنوب آسيا، فإن هذا المبلغ يقل عن 20 دولارًا للشخص الواحد، وأحيانًا يقترب من الصفر.
هذا التفاوت الكبير يطرح تساؤلات حول استدامة هذا النموذج. هل تستمر الدول في تقديم الدعم بنفس الوتيرة، أم أن الإصلاحات باتت ضرورة حتمية؟
الوجه الخفي للدعم.. تلوث ومخاطر اقتصادية
لا يقتصر تأثير دعم الوقود على الاقتصاد فحسب، بل يمتد ليشمل البيئة والصحة العامة. فمع إبقاء أسعار الوقود منخفضة، تزداد معدلات الاستهلاك، مما يؤدي إلى ارتفاع الانبعاثات الكربونية، وتفاقم أزمة التغير المناخي.
في المقابل، تتحمل الحكومات تكاليف غير مباشرة هائلة مثل التلوث الهوائي، والازدحام المروري، وحوادث الطرق. هذه التكاليف، التي غالبًا ما يتم تجاهلها، تجعل الدعم أقرب إلى قنبلة موقوتة تهدد المستقبل البيئي والاقتصادي.
كيف يتم احتساب الدعم؟
يتم حساب إجمالي دعم الوقود الأحفوري عن طريق ضرب استهلاك الوقود في الفرق بين أسعار التجزئة والأسعار الفعلية، والتي تأخذ في الاعتبار تكاليف العرض مثل العمالة والمواد الخام، والأضرار البيئية وغيرها من العوامل الخارجية المرتبطة باستخدام الوقود مثل ازدحام الطرق.
كانت الغالبية العظمى (82%) من دعم الوقود لعام 2022 ضمنية، أي أسعارًا لا تشمل ضرائب الاستهلاك و/أو لا تأخذ في الاعتبار التكاليف البيئية لاستخدام الوقود. أما بقية الدعم فكان صريحًا، أي أنه يُقلل من تكاليف توريد الوقود.
وتشير مؤسسة fdiintelligence إلى أن أسعار الوقود الأحفوري مُسعَّرة بشكل غير صحيح في معظم البلدان. على الرغم من الارتفاعات الأخيرة في الأسعار التي تُعزز الحاجة إلى التحول السريع عن الوقود الأحفوري.
الحلول.. إصلاح لا إلغاء
من السهل المطالبة بإلغاء الدعم، لكن الواقع أكثر تعقيدًا. فإلغاء الدعم دون تقديم بدائل قد يؤدي إلى ارتفاع كبير في الأسعار، مما يضر بالفئات الفقيرة ويدفعها إلى ما يسمى بـ"فقر الوقود".
الحل يكمن في إعادة توجيه الدعم نحو الطاقة المتجددة، وتقديم مساعدات مالية مباشرة للأسر المحتاجة بدلًا من دعم الوقود نفسه. كما يمكن استثمار جزء من الأموال التي يتم توفيرها في تطوير وسائل النقل العام والتنقل الأخضر، وتحفيز الشركات على التحول نحو الطاقة النظيفة.
مستقبل الطاقة.. إلى أين نتجه؟
مع انخفاض تكلفة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وتطور السيارات الكهربائية، أصبح الانتقال إلى اقتصاد منخفض الكربون أكثر سهولة من أي وقت مضى. لكن يبقى التحدي الأكبر في إرادة الحكومات لإجراء الإصلاحات، وتوعية المجتمعات بأهمية التغيير.
فهل نحن مستعدون للتخلي عن الوقود الأحفوري، أم أن المصالح الاقتصادية ستبقيه حاضرًا لعقود قادمة؟