الحكاية ليست مجرد مشاجرة بين شخصين على رصيف الشارع، بل صراع بين ثقافتين متضادتين متنافرتين لا تلتقيان مهما كانت الإغراءات، فلا يوجد أي مبرر ولا فائدة لهذا اللقاء.
الأولى تقف بمنتهى الجبروت تعلن للجميع مميزاتها، هي واضحة، سهلة وبسيطة، كل شيء بالنسبة لها ممكن ومباح حتى ولو وصل الأمر إلى انتهاك حرمة وكرامة الآخرين! فتلك الحرمة تخص هؤلاء الآخرين فقط، أما هي فقد نشأت وتشكلت وتضخمت وتفشت وأصبح لها جذور ضاربة في سابع أرض وفروع تصل إلى سابع سماء دون أن تدري شيئًا عن تلك الأمور.
ثقافة لها مريدوها الذين لا تبصر عيونهم سواها ولا تبغي نفوسهم غيرها، وعلى الجانب الآخر من رصيف الحياة، أقصد رصيف الشارع تقف ثقافة أخرى ذات نظام ومبادئ وقواعد وأصول لا تقبل الفصال، نشأت هي الأخرى وتأصلت وضربت بجذورها وفروعها في كل مكان على الأرض وفي السماء، للكلمة عندها حرمة، وللكرامة حرمة أكبر.
كان وجه الرجل مسودًا محرجًا قلقًا بشكل لا تخطئه العين، ينظر حوله متلفتًا خجلاً، فها هو يقف في الميدان الواسع عاريًا، أو هكذا يرى نفسه، لا يشك لحظة أن كل شخص يراه الآن على هذا الحال! يقف قابضًا على صدره بقوة، يكتم بركانًا يكاد يطيح بقلبه، يبحث حوله عن ورقة توت يستر بها عورته التي انكشفت وتعرت منذ لحظات.
لا أدري لماذا كان الإصرار على ملازمته ومراقبته عن بعد، لقد انتهى كل شيء وانصرف الناس، لكن رد فعل الرجل لما حدث كان غريبًا، انطلق من بين جموع الناس مسرعًا نحو حائط بعيد ثم استند إليه وأغمض عينيه ولم ينطق بكلمة.
كانت ملابس الرجل وهيئته تشيران إلى شخص محترم لم يكن يجدر أن يحدث معه ما حدث منذ لحظات. أمر مثير للحيرة والقلق خاصة أن أحدًا في هذا الميدان المكتظ بالناس لم يلتفت إليه.
سيدي هل أنت بخير؟
نظر الرجل دون أن يتكلم، يغلف عينيه حرج شديد، من السائل ومن أين أتى؟
كان سعيدًا رغم همه وكربه لملاحظته الناس يهرولون من حوله دون أن ينتبهوا إلى حاله أو يسأله أحدهم مثل هذا السؤال. زاد السؤال حدة نظرة الحرج في عينيه بشكل واضح فلم يتفوه بكلمة. من المؤكد أن هذا السائل قد رأى كل ما حدث، ولا شك أنه يراها مجرد مشاجرة عادية، مشاجرة وانتهت كما يحدث في هذا الميدان كل يوم.
سيدي هل أنت بخير؟
حاول أن يبتسم لكن ابتسامته عادت مسرعة من حيث أتت ليحل محلها نظرة تحمل ألماً شديداً، نظرة يتحامل صاحبها على نفسه بكل ما أوتي من قوة ليخفيها، لكنها تأبى أن تختفي خلف خجله وأدبه، أيها الأحمق سوف تموت! اصرخ بألمك ووجعك لعلهم ينتبهون.
سيدي هل ضايقك ما حدث؟
وكأنه قد أفرغت على رأسه عربة محملة بالدبش والزلط! كاد الرجل منذ لحظة واحدة أن ينطق بكلمات الشكر والعرفان للانتباه إليه والاهتمام به والسؤال عن حاله، لكن يبدو أن السؤال كان – بالنسبة له – صادمًا وغبيًا بامتياز! ونطق أخيرًا بصعوبة وألم ظاهر على وجهه ويده لا تزال قابضة على قلبه: وهل كان من المفروض ألا أتضايق؟ هل ما حدث كان عاديًا ومقبولاً؟
الحكاية أن الرجل كان يتحدث إلى بائع شاب يقف خلف "فرشة" لبيع لعب الأطفال، كان يقسم له بكل الأيمان أنه اشترى منه بالأمس لعبة صغيرة لحفيده، وأنه يريد أن يبدلها اليوم لأن بها عيبًا، لكن البائع رفض ولما ناقشه الرجل وأصر على حقه – بمنتهى الهدوء - في تبديلها، صرخ البائع في وجهه: أنت لم تشتر شيئًا من عندي، أنا لا أتذكرك.
كان صوت البائع وصراخه عاليًاجدًا لدرجة جعلت الناس يقفون ويلتفون حولهما كأنهم يشاهدون الأراجوز في المولد! والرجل لا يقول شيئًا إلا: من فضلك اخفض صوتك هذا لا يصح، أنا لم أتحدث إليك إلا بكل أدب واحترام. الغريب أن كلماته وقعت على قلب البائع وكأن أحدًا قد قسم وجهه نصفين بسيف حاد فزاد صراخه في وجه الرجل: أدب واحترام! ماذا تقصد؟ هل تعني أنني قليل الأدب والاحترام، ابتعد قبل أن أجعلك عبرة للجميع.
قال له الرجل اصمت، ماذا تقول؟ لكنه لم يصمت بل زاد صراخه إلى أن انبرى رجلٌ كبير السن من بين جموع المتفرجين وأمسك بالبائع الشاب وظل يشتمه ويسبه بكل ما أوتي من قوة، ذاكرًا أهله وأسلافه بكل ما يعف اللسان عن النطق به، يفعلها وعيناه تجوب حوله تنظر إلى الجميع، تتحدى أن يمتلك أحدهم تلك المعرفة الواسعة بكل مصطلحات وفنون الشقاوة والصعلكة، والفتى ينظر إليه مبتسمًا: أنا لم أفعل شيئًا يا عم شحاتة، هو الذي أخطأ في حقي، يقول إنني غير مؤدب! والعم شحاتة يقبض على ذراعه لاعنًا إياه لتسببه كل يوم في مشكلات مع الناس، كان يبدو وكأنه يعرف تاريخ كل البائعين في الميدان، هو عمدتهم بلا شك. ونجح الرجل مشكورًا في إسكات الفتى وفض المشكلة.
انتهى الأمر إذن وانتقم البائع العجوز للرجل، وسمع منه الفتى أسوأ الألفاظ وأحط الشتائم، أمسك به وكاد يكسر ذراعه أمامنا، فماذا يريد الرجل أكثر من ذلك؟
تحامل الرجل على نفسه وعيناه تطلقان نظرة عميقة فاحصة، وبعد لحظات من التأمل والاطمئنان إلى أن حديثه يسير في الطريق الصحيح قال بصوت يختلط فيه الخجل بالأدب بالحرج: هل سمعت صوت الفتى وصراخه؟ هل رأيت اجتماع الناس حولنا؟ كانت أعينهم معلقة بي وهو يصرخ في وجهي أمامهم بكل تبجح.
هل ترى ذلك عاديًا؟ ولا تقل لي إن العم شحاتة قد انتقم لي! فلا شك أنك رأيت تعبيرات وجه الفتى والعم شحاتة يسب كل أهله بأحط الألفاظ؟ كان يضحك! نعم كان يضحك وكأن الرجل يداعبه أو يغازله ويمدحه! بالنسبة له الشتائم والسباب أمور اعتاد عليها كل يوم، بل كل دقيقة.
لكنه لا يعلم، ويقينًا لو علم فلن يفهم، وربما لو فهم فلن يستوعب، ولو صادف واستوعب فبالتأكيد لن يقتنع أن صوته العالي أمام الناس هو بدون أي جدال جريمة لا تغتفر. لا يدرك وربما لن يدرك يومًا أن الصوت العالي بالنسبة لي ولطبيعتي ونشأتي وتربيتي وحياتي وتعاملاتي وثقافتي، هي شتيمة وسباب أكثر مما نطق به لسان العم شحاتة.
أعلم أن الصوت العالي والشتائم والسباب هو أسلوب حياة يتعامل به كل لحظة مع من حوله، أمر عادي وطبيعي! ولذلك لن يفهم أن الصوت العالي بالنسبة لي ولأمثالي يعتبر تجاوزًا ليس بعده تجاوز! وكيف له أن يفهم ذلك؟ ربما إن أخبرته بغضبي تعجب من نظرتي للأمور وضحك، ربما إن مررت به غدًا لن يتذكرني ولن يتذكر ما حدث اليوم، وقد يتساءل بمنتهى البراءة والحيرة: ماذا فعلت!
فكما قلت لك هو أسلوب حياة اعتاد عليه.