لا شك أن العالم العربي يراهن منذ زمن بعيد على صحوة التنين، وأغلب الظن أن جمال عبد الناصر ورفاقه لم يراهنوا على "الأمة الصينية" في ذروة "نوبة عاطفية". بل سارعت القيادة المصرية، والشعب المصري على الاعتراف بحكومة بكين في البر الصيني لأن ذلك هو الأمر الطبيعي، ومنذ هذه اللحظة فقد كسبت مصر رهانها على المبادئ، وجاءت المصالح على طول الطريق لتقوي هذه "الشراكة الاستراتيجية" بين مصر والصين. ونحن هنا في مصر نهتدي بإحدى أهم حكمنا القديمة "اختر الرفيق قبل الطريق". ولقد اختارت القاهرة رفقة التنين.
وفي حواري مع الخبير الاستراتيجي الدكتور اللواء صفوت الديب رئيس أكاديمية ناصر العسكرية الأسبق عن سر العلاقة الخاصة بين مصر والصين التي صمدت بنجاح "لاختبار الزمن"، يقول الديب بمودة "الصين طوال تاريخها لم تتآمر على أمننا القومي، ودائمًا ما تصوت معنا في المحافل الدولية. لم تستخدم بكين الفيتو ضدنا في مجلس الأمن، وعلاقاتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية معنا أفادتنا أكبر بكثير مما استفادت. وبالرغم من أنها في منتصف السبعينات لم تكن متقدمة تكنولوجيا، إلا أنها كسرت حظر تصدير السلاح لمصر بعد أن هاجم الرئيس الراحل أنور السادات السوفييت، فتوقفوا عن إرسال الأسلحة لمصر، ولم تكن أمريكا راغبة في إرسال السلاح لمصر، فقرر الزعيم الصيني ماو تسي تونج إمداد مصر باحتياجاتها من الأسلحة بدون ثمن، وذلك امتنانًا منها لمصر التي كانت أول دولة في الشرق الأوسط تعترف بها. وحتى الآن تزود بكين مصر بأي مواد يمتنع الغرب عن تزويدنا بها". ويؤكد الديب على ضرورة أن نساعد من يساعدنا، ومعاونة الصين على الارتقاء على الساحة الدولية لأن ذلك يصب بالتأكيد في صالح أمننا القومي.
وفي الوقت نفسه يقول الصينيون القدماء: "إذا كنت تريد أن تصبح ثريًا، فقم ببناء الطريق أولًا"، لقد وجهت هذه الحكمة القديمة تنمية الصين، منذ الأيام الأولى للإصلاح والانفتاح، وحتى المعركة ضد الفقر. والآن، تمتد هذه التجربة على مستوى مصر والعالم، كجزء من التعاون ضمن مبادرة الحزام والطريق.
ويظل السؤال ملحًا لماذا تتطلع العديد من الدول إلى الصين؟، والإجابة بوضوح "لأن الصين سلكت مسار تحديث مختلف عن ذلك الذي اتبعه الغرب، مما يقدم للعالم منظورًا جديدًا للتنمية". وبالمناسبة نجح المسار الصيني نجاحًا مبهرًا، وتقول صحيفة الشعب الصينية في تقرير أخير لها بعنوان "لماذا أصبحت فلسفة التنمية الجديدة للصين منفعة عامة عالمية؟"، أن نجاح الصين في انتشال 800 مليون شخص من الفقر، أثبت أن البلدان النامية يمكنها القضاء على الفقر. وأحسب أن القاهرة يمكنها أن تدرس هذه التجربة المتميزة للتخلص من مشكلة الفقر، ولكن في أي المجالات يمكن لنموذج التنمية الصيني "ورؤية مصر 2030" أن يعززا التعاون؟.
ويقدم السفير هشام الزميتي الخبير الاستراتيجي رؤية متميزة، ويقول "رؤية مصر 2030" ونموذج التنمية الصيني يتشاركان في أولويات مشتركة، تشمل التصنيع، وتطوير البنية التحتية، والتحول الرقمي، والطاقة المتجددة، والنمو المعزز بفرص العمل. ونظرًا لنجاح الصين في تحقيق التوازن بين النمو المعزز بالابتكار وخلق فرص العمل على نطاق واسع، فهناك إمكانات كبيرة لتعميق التعاون الصيني المصري في العديد من المجالات الرئيسية. لنأخذ المناطق الصناعية والمناطق الاقتصادية الخاصة مثالًا. تعتبر المنطقة الاقتصادية لقناة السويس في مصر مركزًا طبيعيًا لجذب الاستثمارات الصينية في التصنيع والخدمات اللوجستية والتكنولوجيا. وتعتبر شركة التطوير الصناعي الصينية "تيدا" شريكًا رئيسيًا للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس في مصر.
وفيما يتعلق بتطوير البنية التحتية ومبادرة الحزام والطريق، فإن الصين حاضرة بالفعل وتقدم دعمًا فعالًا للعاصمة الإدارية الجديدة لمصر من خلال شركة هندسة البناء الحكومية الصينية. إن توسيع التعاون في مجال السكك الحديدية، والموانئ مثل قناة السويس، والمدن الذكية، يعزز القدرات اللوجستية لمصر. كما يتماشى الاستثمار في شبكات الطاقة المتجددة وإدارة المياه مع أهداف مصر للاستدامة.
وفيما يتعلق بالطاقة المتجددة والتصنيع الأخضر، يرى الزميتي أنه يمكن لمحطة بنبان للطاقة الشمسية في مصر (وهي إحدى أكبر محطات الطاقة الشمسية في العالم) جذب المزيد من الاستثمارات الصينية في تصنيع الطاقة الشمسية. كما يمكن لشراكات الهيدروجين الأخضر بين الصين ومصر أن تجعل مصر مركزًا للطاقة النظيفة لأفريقيا وأوروبا.
وتتوافق خبرة الصين في البنية التحتية، والمناطق الاقتصادية الخاصة، والتحول الرقمي، والطاقة المتجددة بشكل جيد مع أهداف "رؤية مصر 2030". ومن خلال تعميق التعاون في المناطق الصناعية، ونقل التكنولوجيا، وتدريب القوى العاملة، والطاقة الخضراء، يمكن لمصر تسريع مسيرتها نحو التصنيع المستدام والتنويع الاقتصادي، مستفيدةً من موقعها الجغرافي الاستراتيجي كبوابة بين أفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا.
وتشهد العلاقات المصرية الصينية نموًا ملحوظًا، فقد شارك رئيس الوزراء مصطفى مدبولي في منتدى التعاون الصيني -الإفريقي (فوكاك) في بكين خلال سبتمبر الماضي، وأكد مدبولي - في مقابلة مع وكالة أنباء شينخوا - أن مصر والصين شكلتا إطارًا للتعاون متعدد المستويات، مشيرًا إلى خصوصية العلاقات الممتدة بين البلدين. وشدد على أن "سعي مصر لتوطيد علاقات التعاون مع الجانب الصيني ينطبق عليه شعار تحقيق المكاسب للجميع دون استئثار طرف على حساب الآخر"، مضيفًا أن "مصر تقدر ما حققته علاقات التعاون المصري الصيني من طفرة ملموسة في العقد الأخير".
وقبل أسبوعين من نهاية العام، سافر وزير الخارجية والهجرة وشؤون المصريين بالخارج بدر عبد العاطي إلى بكين، وترأس مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي الحوار الاستراتيجي بين البلدين في 13 ديسمبر الجاري. وقال عبد العاطي في ختام الحوار الاستراتيجي إن "الصين شريك مقدر لمصر، وشريك لنا في عملية التنمية نعتز به، ونثمن دور الشركات الصينية في دفع عملية التحديث والتنمية في مصر". وأكد أن العلاقات مع الصين تشهد "تطورًا ملموسًا" في مجالات التعاون المختلفة وعلى رأسها التشاور السياسي بين البلدين والتقارب الشديد في مواقف البلدين تجاه القضايا الإقليمية والدولية.
وشددت الصين ومصر - في ختام الحوار الاستراتيجي - على "الدفع بالعلاقات الثنائية للمضي قدمًا نحو هدف أسمى يتمثل في إقامة المجتمع الصيني المصري للمستقبل المشترك نحو العصر الجديد". وتعد الصين أكبر شريك تجاري لمصر على مدار 12 عامًا متتالية، وتشهد استثماراتها في مصر نموًا متزايدًا.
ويبقى أن مصر والصين أمامهما مستقبل مليء بالفرص والتحديات، وينبغي أن نعظم الفرص، ونواجه التحديات معًا. وأحسب أننا لابد أن نقوي الروابط غير الرسمية بين نخبة الشعبين، وأن نقترب أكثر من بعضنا البعض في المجال الثقافي، وتبادل العلماء والكتاب والصحفيين، وأن نحسن "خريطة طريق" للتعاون العميق، بعدما اختارت مصر والصين "الصحبة" في رحلتهما نحو المستقبل.