أصدر "مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية"، التقرير الاستراتيجي العربي 2024، ويحمل رؤية علمية لاتجاهات التحول الأساسية بالعالم وبالإقليم العربي والشرق أوسطي ومصر.
موضوعات مقترحة
وأكد التقرير الاستراتيجي العربي أن عام 2024 كان مفصليا في مسار التحول العالمي؛ حيث شهد تطورات مهمة على صعيد الحرب الروسية – الأوكرانية، ودخل النظام الدولي -الذي نشأ مع نهاية الحرب العالمية الثانية- مرحلة تقترب من الأفول، وجاءت إعادة انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة مؤشرًا قويًا على اتجاه الولايات المتحدة للكف عن التصرف كقيادة ليبرالية للنظام الدولي، وإن لم تكف عن مواصلة الهيمنة على النظام، وشهدت مؤسسات العدالة الدولية حملة شديدة ضدها بعد أن أدانت جرائم إسرائيل في غزة، في ظل انحياز أمريكي واضح لإسرائيل. وفضلا عن هذا وذاك، أخذ مركز الثقل العالمي يتحرك نحو الشرق الأسيوي ليؤشر إلى بدايات بزوغ نظام دولي جديد.
واشتمل التقرير على تحليلات مركزة لتطورات العام 2024، وسعى لاستكشاف مساراتها المتوقعة خلال العام 2025، عبر أقسامه الثلاثة: الدولي، والعربي، فضلا عن القسم الخاص بجمهورية مصر العربية:
تعريف بـ«التقرير الاستراتيجي العربي»
هو الإصدار الأبرز لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، شكل مصنعا ومدرسة لتدريب الكوادر البحثية العلمية المصرية على التحليل السياسي واتباع مناهج البحث العلمي ورصد وتحليل الظواهر والتطورات والأفكار والرؤى الاستراتيجية بشأن العالم والإقليم العربي ومصر. صدر العدد الأول منه عام 1986، وانتظم صدوره بشكل سنوي حتى الآن. ولقد انتشرت مدرسته في مراكز بحثية عربية مختلفة انتهجت نهجه؛ فاقتدت به تقارير كثيرة صدرت تاليا في دول عربية مختلفة تحت الإسم نفسه، أو بمسميات مختلفة، ارتبطت بالوطن محل الصدور أحيانا، أو بسنوات الإصدار أحيانا أخرى، مما أثرى الحياة العربية بتحليلات استراتيجية مهمة، مع ذلك ظل تقرير مركز الأهرام مميزا وذا طابع خاص.
على مدى عمر التقرير الاستراتيجي العربي -خلال الأربعين عاما الماضية- شارك في إعداده مئات الباحثين من مصر والعالم العربي، وفي عام 2024 شارك فيه ما يناهز أربعين خبيرا وباحثا وأستاذا من داخل مركز الأهرام ومن خارجه، مما جعله أهم إصدار استراتيجي عربي ينتهج العمل بروح الفريق، على نحو جعل لتحليلاته وأفكاره مصداقية وأهمية خاصة.
التقرير الاستراتيجي العربي لعام 2024
يكتسب هذا التقرير الذي يصدر سنويا عن مركز الأهرام أهمية بالغة بالنظر إلى التقاليد العلمية التي أرساها على مدى أعوامه الأربعين ليشكل التقرير الأول من نوعه في المنطقة العربية. وهو التقرير الذي التفت حوله أطياف النخبة المصرية والعربية في البحث والنقاش، فشكل ملتقى سنوي للتفكير الجماعي ولصناعة وتشكيل الأفكار الاستراتيجية، عبر مناقشته السنوية في المؤتمرات ووسائل الإعلام، على أيدي باحثين وخبراء ودبلوماسيين وعسكريين ونخب فكرية متعددة التوجهات والمشارب.
قدّم القسم الدولي، إطلالة على الانتخابات الأمريكية التي فاز بها الرئيس السابق دونالد ترامب، مع تشكيله إدارته التي اتسمت باللا نمطية الوظيفية من الزاوية البيروقراطية، وبالتوجهات اللا متماثلة من حيث التعامل مع القضايا العالمية؛ والتي برزت توجهاتها في الانسحاب من عدد من المعاهدات والمنظمات الدولية، التي شكل بعضها دعامات للاستقرار العالمي على مدى السبعين عاما الماضية من عمر النظام الدولي.
في ظل تلك التوجهات، ضربت الشكوك مستقبل التحالف العابر للأطلسي (حلف الأطلنطي)، لمصلحة تقارب أمريكي مع روسيا، تتبدى ملامحه فيما يشبه اقتسام البلدين ثروات أوكرانيا، ما يطرح التساؤل حول إمكان تكرار الأمر نفسه مع الصين بشأن تايوان، في ظل منهج دولي يتبعه الرئيس الأمريكي في ظل أهدافه الشبيهة بالأهداف الاستعمارية لنهب خيرات الشعوب ومعادنها النادرة. من زاوية أخرى، فالأمر نفسه يجعل الولايات المتحدة على جوار جغرافي مباشر مع روسيا، ومستقبلا مع الصين -إن توافقت واشنطن وبكين- بشأن تايوان، وهو ما يطرح السؤال حول ما إن كان ذلك سيشكل جزءا من التوافق الاستعماري أم الصراع الجيواقتصادي والجيوسياسي الجديد، تحل فيه الولايات المتحدة منفردة محل حلف الناتو.
لقد أفرد التقرير الاستراتيجي العربي 2024 للهند موضوعًا مستقلًا، إقرارًا بمكانتها، بعد أن أصبح الصعود الهندي جزءًا من الحقائق الدولية؛ حيث عززت نيودلهي من دورها كقطب صاعد بين الأقطاب، ويبحث التقرير في أبعاد الصعود الهندي، في ضوء الرؤية الخاصة بنخبتها السياسية، وخطابها القومي الأيديولوجي ودور حزب بهاراتيا جاناتا ورئيس الوزراء الحالي ناريندرا مودي.
الحروب وحالات الفوضى
لقد شهد عام 2024 أيضا أشكالا من الصراعات نبهت إلى ضعف نظام الحوكمة العالمي، وابتعاد مجالات للصراع دولي عن دائرة التقنين، من ذلك: الصراع على الفضاء الخارجي، الذي تمثل في تعاظم الاتجاه لتسليحه والتكالب على استعمار القمر، لأجل استغلال موارده في تطوير تقنيات عسكرية فضائية مختلفة، في ظل عجز شديد في منظومة قانون الفضاء الدولي عن تنظيم الأمور المتعلقة بنزع السلاح في الفضاء واستكشافه واستغلال موارده.
الأمر نفسه مع وصول تطبيقات الذكاء الاصطناعي إلى دول مارقة أو فاعلين من غير الدول مثل الجماعات الإرهابية أو الإجرامية، ما يهدد بسوء استخدام تطبيقات "الذكاء" في قمع الشعوب وضد الحريات، ويطرح تهديدًا مماثلًا للتهديد الذي طرحه استخدام القنبلة الذرية خلال الحرب العالمية الثانية. لذلك يدعو التقرير إلى إنشاء منظمة دولية للذكاء الاصطناعي على غرار الوكالة الدولية للطاقة النووية.
وفي ظل تراجع جهود مكافحة الإرهاب دوليا، يزداد خطر الظاهرة الإرهابية على الصعيد العالمي، نتيجة الحروب وحالات الفوضى والفراغ الأمني في عديد من دول الأزمات، لذلك لا يزال خطر الخلايا النائمة وعمليات "الذئاب المُنفردة" يُخيم على العديد من الدول حول العالم، مع انتقال بؤر تمركز التنظيمات الإرهابية ونشاطها إلى أقاليم عالمية جديدة.
وإذا كان صعود العنف والإرهاب يعبر عن الحالة المناهضة للحالة الرسمية بالعالم، فقد شهد العالم صعودا لحالة العنف الرسمي، على نحو عكسته تطورات القارة الأوروبية والانتخابات الأمريكية التي أتت بإدارات يمينية متطرفة تتبنى الحمائية والأنانية الوطنية وترفع شعارات الوطن أولا. وجاء استمرار صعود أحزاب أقصى اليمين في أوروبا عام 2024، امتدادًا لمسار طويل بدأ منذ بداية الألفية الثالثة؛ واقتحم الحالة الرسمية الأوروبية ليشكل حكومات بتوجهات متطرفة، أصبحت شعاراتها وتوجهاتها مقبولة داخل النظام الديمقراطي. وعلى الصعيد الآسيوي، شهد منطقة جنوب شرق القارة مؤشرات تهدئة توازنت مع بوادر التصعيد، وهي حالة إيجابية تشير إلى ارتفاع قدرات الدول الآسيوية على كبح ممارساتها العدائية والتواصل الدبلوماسي البيني حول أزماتها، برغم بعض السلوكيات الساذجة التي اندفعت بها دولة من دولها (كوريا الشمالية) لإطلاق بالونات القمامة والنفايات على جارتها الجنوبية. وبطريقتها الخاصة عبرت القارة الأفريقية عن توجهها تجاه العالم، بعد أن شهدت بعض دولها انقلابات أطاحت بالنخب الموالية للغرب لمصلحة نخب عسكرية أعادت تشكيل تحالفات بلدانها مع الصين وروسيا.
ومع اختيار التوجهات اليمينية في الداخل، تنعكس على سطح العلاقات الدولية روح يمينية حمائية متطرفة تهدد النظام الدولي، وتقربه إلى النظام الاستعماري الغربي في القرون السابقة، حيث تنهج القوى الكبرى فيه نهج الحمائية وتنظر لمصالحها الوطنية نظرة أنانية مطلقة. وهو اتجاه يندفع إليه العالم اضطرارا على الأقل في السنوات الأربع للرئيس ترامب، وهكذا بين الحمائية والتكالب الاستعماري والتوجهات اليمينية للحكومات والاختناق في سلاسل الإمداد مع تهديد أمن الملاحة البحرية، يقف العالم على أعتاب مرحلة يتقارب فيها قيم النظام الرسمي مع قيم الجماعات العنيفة، وينتهج فيها النظام الدولي أنماط سلوك لا متماثلة في إدارة علاقاته الدولية، تضاعف حالة عدم الاستقرار الجيوسياسي.
لقد أشار قدوم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى أدوار القيادات في السياسة الدولية؛ حيث أنه بانتخاب ترامب، أخذت الدول تكيف ذاتها مع الرئيس الجديد وفق إدراكها لشخصيته، الأمر الذي انعكس على بعض مناطق العالم بقدر من الاستقرار والتهدئة وعلى مناطق أخرى بمزيد من العنف. ويشير ذلك إلى دور الأشخاص والقادة في العلاقات الدولية وفي استقرار النظام الدولي.
العالم العربي
يؤكد التقرير الاستراتيجي العربي، أن عام 2024 لم يكن عاما اعتياديًا على العالم العربي، بمثل ما لم يكن اعتياديًا على العالم؛ فقد شهد العام أحداثًا جسيمة في الإقليم، كان أهمها استمرار الحرب الإسرائيلية العنيفة على قطاع غزة، مع العجز عن إيقافها أو الحد من تداعياتها، أو منع توسيعها لتشمل لبنان واليمن وسوريا وإيران. لقد طغت تداعيات الحرب على التفاعلات العربية على المستوى الجماعي، وحتى على مستوى القضايا الفرعية، لكنها لم تؤد إلى تقليص الخلافات في دول الأزمات التي ظلت التسويات فيها متعثرة، في حالة تركت الأوطان عند منتصف الطريق؛ فلا هي تمكنت من العودة لحالة الدولة الواحدة، ولا شهدت تقسيمًا معترفًا به دوليًا إلى دولتين أو أكثر.
التقرير الاستراتيجي العربي لعام 2024
انتهى العام بالحدث السوري الكبير، وسقوط نظام بشار الأسد بشكل مفاجئ، على نحو شكل طوفانا أشبه بطوفان الأقصى، هذه المرة في الشام، مع ما استدعاه ذلك من حالة مشابهة بين سقوط النظام السوري في 2024 وسقوط النظام العراقي عام 2003، علاوة على ما حمله الحدث السوري من اتصال بالذاكرة مع أحداث الثورات العربية عام 2011.
سبق سقوط النظام في دمشق تصريحات لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، كرر فيها أحاديثه عن نظام إقليمي شرق أوسطي جديد تتغير موازين القوى وخريطة المصالح والتحالفات فيه. ولم تهدأ الأحداث حتى جاءت مفاجآت مطلع العام 2025، بالتصريحات المتكررة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حول تهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن، قبل أن تهدأ آلة الحرب الإسرائيلية، باتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، ما أكد استمرار الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل وشكل إنذارا بتصفية القضية الفلسطينية، بعد 15 شهرا من التدمير الكلي قضت على حصاد 60 عاما من التنمية في غزة.
طرحت جولة الحرب بين إسرائيل وحماس، ثم إسرائيل وحزب الله اللبناني والحوثيين والفصائل المسلحة العراقية عام 2024 في بداياتها السؤال حول إمكان انطباق نتائج الحروب اللا متماثلة على إسرائيل أيضا؛ وكان السيناريو المتوقع حتى الأشهر الأخيرة من العام، يرجّح حرب استنزاف طويلة، بإمكانها -لو حدثت- قلب معادلات الصراع التي استقرت لعقود في الإقليم، وفتح تاريخ جديد من المواجهات الأكبر، وهو ما كان سيُعد مشهدا إيجابيا للقضية الفلسطينية، ومتفاوت الأثر على النظام الإقليمي الرسمي.
تمكنت إسرائيل -عبر توجيه ضربات شديدة للجماعات والفصائل- من إخراجها تدريجيا من ساحة المواجهة، وتعطيل قدراتها العسكرية، ومن ثم أكدت وضعيتها الاستثنائية في عدم انطباق نتائج الحروب اللا متماثلة عليها، بعد أن أظهرت -عبر سياسة الردع بالقوة المفرطة والحرب الطويلة- فجوة التكنولوجيا بينها وبينهم، بحد فرض على الجماعات قبول تسويات كانت ترفضها من قبل، وأبرمت إسرائيل الاتفاقيات متمسكة بموقفها بأن تجعل حربها مفتوحة وبالإمكان تجديدها في أي وقت يستدعي ذلك، ومن ثم تمكنت من تحويل الحروب التي ظلت لسنين محكومة بقواعد الاشتباك-على غرار الحالة مع حزب الله في لبنان- إلى اتفاق للانضباط العسكري والأمني والسياسي، ستكون له انعكاساته على الداخل اللبناني أيضا. وبقيت حالة الحوثيين لتشير إلى أن التفوق التكنولوجي وحده ليس هو كل شيء في تحديد مستقبل هذه الجماعات.
انتهى العام 2024 بتغول إسرائيلي، سواء بالقدرة على تحمل الحرب الطويلة (الاستنزاف)، أو القدرة على مواجهة العالم بـ "مدى لا نهائي" من الضحايا المدنيين، يصل لمستوى "الإبادة الجماعية"، دون خوف من محاسبة أو تعرض للمسؤولية، بل مع مطالبات من المجتمع والنخب الإسرائيلية في الداخل بالمزيد من الدمار والحرب، مع استبداد للحالة الهيستيرية المتطرفة التي تتنافس فوق مسطرة اليمين، في ظل استمرار نهج إلقاء المسؤولية على الآخر، والقدرة الاستثنائية على تحدي الإرادة الدولية، واتهام مؤسسات العدالة بأنها مخطئة، مع الدعوة لمحاكمة مسؤوليها وقضاتها، في سلوك لا سابق له في العالم!
طرح العام أسئلة كثيرة حول مستقبل الجماعات -التي أطلق عليها التقرير للمرة الأولى تسمية "الفاعلون المتوازيون مع الدولة"- تمييزا لهم عن مصطلح "الفاعلين من غير الدول"، الذي يشمل مختلف الكيانات الفاعلة والنشطة، التي تمارس أدوارها دون أن تسعى للقيام بأعمال وأنشطة تتوازى مع مهام الدولة أو تنافسها أو تطرح بدائل لها، وتأكيدا على أن هذه الجماعات(خصوصا حزب الله اللبناني والحوثيين وحركة حماس) تقوم بأدوار تتشابه مع أدوار الدول وتتوازى معها، وتفرض سلطتها على مساحات قد تضيق أو تتسع لتنال من ولاية الدولة عليها، لتحكم في النهاية بنظام وأيديولوجيا جديدة.
على قدر ما طرح تراجع أدوار الفاعلين المتوازيين مع الدولة، وخفوت حدتهم في الإقليم في آخر العام 2024، من أسئلة بشأن المبالغة أو عدم المبالغة في تقييم قدراتهم خلال العقدين الماضيين، فقد طرح انزواؤها السريع أسئلة حول مستقبل أدوارها، وما إن كانت ستختفي كليا عن المشهد العربي، أو تنزوي نحو العمل السياسي والمدني الداخلي، وما إن كان تراجعها مرحليا أو استراتيجيا، أو يبدأ كتراجع مرحلي لينتهي بتحول استراتيجي، ومدى استمرار علاقاتها بإيران، وانعكاسات ذلك سلبا وإيجابا على الدول الوطنية في بلدانها، وإمكان أن يسهل ذلك عمل تسويات في الدول العربية التي ظلت مأزومة لسنين.
لقد تجدد الحديث عن أدوار هذه الجماعات ثانية (الفاعلون المتوازيون مع الدولة)، بعد تقدم نظيراتها السنية واستيلائها على الحكم في سوريا آخر العام 2024، مما طرح أسئلة حول إمكان تكرار تركيا الحقبة الإيرانية –معكوسة- بجماعاتها الرديفة كوكلاء في الأدوار عن أنقرة في الإقليم العربي، أو أن يشكلون نموذجا إسلامويا يجدد طموحات المشروع التركي بنسخته الأردوغانية الأصلية التي برزت خلال الثورات العربية منذ 2011، أو نموذجا تنمويا يمثل تكرارا للنموذج التركي في سوريا ويطرح إشكاليات أيضا للمنظومة العربية، أو نموذجا تخريبيا ينخرط في مواجهات جماعاتية سنية/ شيعية في الفترة المقبلة، في ظل رؤية استراتيجية لكبح جماح إيران ووكلائها عبر المواجهة مع الوكلاء السنة، على أرضية العداء المؤطر مذهبيا بين الوكلاء من الجانبين. ويشير نمط التعامل الخليجي مع النظام السوري الجديد إلى إمكان التواؤم مع نظام إقليمي من نوع مختلف، ويطرح السؤال حول ما إن كان "طوفان الشام" يؤسس لتحالف ثلاثي بين إسرائيل وتركيا والولايات المتحدة، ودول عربية تشمل سوريا، بما يدعَّم طموحات إسرائيل في هندسة الأوضاع وفرض معادلة جديدة للنظام الشرق أوسطي.
ورغم أن الحرب الإسرائيلية ظلت في عنفوانها طوال العام 2024، فقد بقيت الحوارات والأحاديث حول صفقة التطبيع الإقليمي الأكبر قائمة ولم تتوار، وظلت أشبه بالحاضر الغائب طيلة العام؛ فبينما أكدت القيادة والدولة السعودية بأن المملكة لن تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل دون قيام دولة فلسطينية، فقد أكد سلوك إسرائيل رغبتها في الحصول على كل شيء بلا مقابل: استمرار الحرب حتى تحقيق الأهداف المعلنة وغير المعلنة، واستمرار السعي الحثيث لأجل الفوز بالتطبيع من دون حل الدولتين. وظلت الأحاديث حول ازدياد احتمالات التطبيع -برغم ازدياد الحالة العدائية الشعبية ضد إسرائيل في المنطقة- مسألة تحتاج إلى تفسير.
وازدادت الأسئلة حولها مع تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في يناير 2025 حول نقل الفلسطينيين إلى مصر والأردن وتعهده بأن تسيطر الولايات المتحدة على قطاع غزة بعد إعادة توطين الفلسطينيين في أماكن أخرى وتطوير القطاع اقتصاديا، ليصبح "ريفييرا الشرق الأوسط"، على حد قوله خلال زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي للبيت الأبيض في 4 فبراير 2025.
لقد دخلت أفكار وعمليات التطبيع في مستويات أخرى عام 2024؛ فبينما أدى الضغط العسكري على محور الممانعة إلى تراجع أوضاعه داخل النظام الإقليمي، وتعززت مواقف الأطراف المختلفة مع هذا المحور داخل النظام، فقد طرح التغيير الذي جرى في سوريا أسئلة كثيرة حول مستقل علاقة سوريا الجديدة بالقضية الفلسطينية، بعد التصريحات غير الصدامية للقادمين الجدد على حكم سوريا، تجاه إسرائيل، وحتى تجاه الاعتداءات الإسرائيلية على مقرات الجيش السوري والاستيلاء على بعض الأراضي السورية، وهو ما طرح الأسئلة حول أجندة القادمين الجدد، وما إن كانت تستبطن توجهات عروبية، تسعى مرحليا إلى تجنب بناء حالة عداء إقليمية إلى أن تتمكن من الكشف عن حقيقة قناعاتها تاليا، أو تحمل توجها استراتيجيا عقيديا قائما على تفريغ طاقات العداء للجار القريب (الأنظمة والبلدان العربية)، كحالة كثير من التنظيمات التي عرفتها المنطقة في العقود الماضية؟
بالنسبة لبلد عربي غير مطبع رسميا، ظل طيلة العام 2024 مقرا لزيارات المسؤولين الأمنيين والمفاوضين الإسرائيليين مثل قطر، فإن التواصل الأمني والاستخباراتي قد يتطور إلى تواصل اقتصادي وسياسي وتطبيعي. وجاء تصريح الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون لافتا في 3 فبراير 2025 بأن الجزائر على استعداد للتطبيع مع إسرائيل في حال أفضت المفاوضات إلى إقامة دولة فلسطينية. وكل ذلك يشير إلى أن ملف التطبيع الإقليمي قد يصبح مطروحا بقوة عام 2025، برغم النتائج الكارثية للحرب وربما بسببها.
وإذا تحقق مشروع الدولة الفلسطينية، فقد ينجح هذا المسار ويطرح تسويات وتطبيع أكبر قد لا يستبعد إيران نفسها، أما إذا انتقل مشروع الرئيس الأمريكي من حد الإعلان والتصريح إلى حد الفعل والتنفيذ، فإن المنطقة وفواعلها من الدول قد تكون مرشحة لمرحلة اشتباك داخلي بين سيناريوهين: سيناريو تقدم التطبيع وسيناريو الصدام مع الأفكار التي طرحها الرئيس ترامب، مما يعني على الصعيد العربي إحتمال أن تؤدي ممارسات التهجير في غزة –إن جرى تنفيذها- إلى نشأة حالة إقليمية جديدة، يتحول فيها محور التطبيع إلى محور ممانعة من نوع مختلف.
لا تزال إفرازات الحروب التي خاضتها إسرائيل في المنطقة في بداياتها، وقد تخلق توترات وصراعات من نوع مختلف، سواء بين إسرائيل ودول التطبيع القديمة، أو تدفع لمزيد من الحروب بين إسرائيل والفلسطينيين، أو إسرائيل ودول إقليمية أخرى كإيران، مع أحاديث مسؤولين إسرائيليين عسكريين جددا عن أن عام 2025 "سيكون عام حرب".
وكل ذلك يضع دول التطبيع العربية "المرشحة"، ودول التطبيع القائم (القديمة والجديدة)، وباقي الدول العربية أمام مسؤوليات أساسية، بين الالتزام القومي إزاء القضية الفلسطينية، وضغوط التطبيع المفروضة التي تطرح تحديات غير محسوبة.
جهود مصرية عظيمة
على الصعيد المصري، ظلت الحرب على غزة إحدى الشواغل المصرية الداخلية، ليس فقط للدولة والسياسة الخارجية، وإنما للمؤسسات والرأي العام والأفراد؛ في ظل تداعياتها الثقيلة مع جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل على الحدود الشمالية الشرقية لمصر، واستيلائها على محور فيلادلفيا وحربها على جنوب لبنان وهجماتها في اليمن وإيران، ثم أخيرا سلوكها العدواني على سوريا. شغل كل ذلك حيزا كبيرا من الاهتمام المصري، بشكل دق أجراس الإنذار حول أخطار السلوك الإسرائيلي في المنطقة، وطرح الشكوك حول نيّات إسرائيل، في ظل معاهدة السلام التي ضمنت الأمن والاستقرار بين البلدين لما تجاوز أربعين عاما، كان يمكنها أن تكتب مصيرا آخر للمنطقة، لو لم يجر إبرام المعاهدة.
إذا كان العام 2024 قد حمل هموما لمصر جعلت الشأنين الفلسطيني والسوري شأنا مصريا داخليا، فقد بدأ عام 2025 وقضية غزة والشعب الفلسطيني هي الشاغل المصري الأساسي، بعد تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب،.
التقرير الاستراتيجي العربي لعام 2024
جاءت التصريحات بلغة خطاب أمريكية غير معتادة مع مصر، وجسدت الخطر الذي طالما عبرت مصر عن رفضها له منذ بدايات الحرب الإسرائيلية وهو الخاص بخيار التهجير، الذي اعتبرته مصر طرحا يمس أمنها القومي، وهو طرح يعيد المنطقة إلى نقطة الصفر. لذلك تفاعلت معه الدولة المصرية والرأي العام والمجتمع المصري كأنه القضية الوطنية الأولى، فأصدرت وزارة خارجية جمهورية مصر العربية بيانات متعددة خلال أيام وجيزة عبرت عن رفض مصر الشديد له.
شهد عام 2024 حراكًا في قضايا المجال العام، وكان لافتا، بروز ملامح تشكل مكون سياسي مدني جديد حول الدولة انبثق على أثر فعاليات الحوار الوطني. وعلى الرغم من استمرار سيطرة حالة الاستقطاب على الخطاب العام، بعد انقضاء نحو أربعة عشر عامًا على أحداث الخامس والعشرين من يناير 2011، إلا أنه يلفت الانتباه أيضا أن هذه الحالة أخذت في التراجع مع أواخر عام 2024، ومطلع عام 2025 مع بروز تحديات أكبر على الأمن القومي المصري، تقلصت أمامها التحديات الأصغر.
الحوار الوطني
لقد استمر الحوار الوطني الذي دعا رئيس الجمهورية إلى عقده في أداء مهامه خلال عام 2024، وسط جدال حول إمكان استمراره كتنظيم مؤسسي، وحول وسائل تنفيذ توصياته ومخرجاته. أحدث الحوار نشاطًا في مناقشة القضايا الوطنية، وسدَّ فراغًا في الحياة السياسية عوّض به نقص أداء الأطر الحزبية والمؤسسية. لكن رغم الطموح باستدامته وتنظيمه وجعله إطارًا مؤسسيًا يضاف إلى هيكلية التكوين السياسي في الجمهورية الجديدة، فقد ظل في منطقة وسطى بين حدود الفاعلية وضوابط الدور. وكان لافتا أن يصبح الحوار نموذجا وقاعدة على الصعيد الرسمي؛ بعد أن أخذ رئيس الوزراء المصري يجري بنفسه سلسلة حوارات مع مختلف التيارات والقوى والشخصيات حول القضايا الوطنية والأولويات الحكومية.
أدخل التشكيل الوزاري الجديد الذي جرى في يوليو2024 تغييرا كبيرًا في الحقائب الوزارية؛ خاصة حقائب المجموعة الاقتصادية، التي عادت فيها بعض الوزارات ودُمجت أخرى، وبالنظر إلى حدوث التغيير الحكومي في ظل توترات إقليمية ودولية، فقد انعكس ذلك في الأهداف التي حددها التكليف الرئاسي للحكومة، الذي تضمن: ضرورة الحفاظ على محددات الأمن القومي، ومواصلة جهود تطوير المشاركة السياسية وملفات الأمن والاستقرار، ومكافحة الإرهاب، جنبًا إلى جنب مع تطوير ملفات الثقافة والوعي الوطني وبناء الإنسان المصري.
وفي ظل المشكلات الاقتصادية الضاغطة، سعت مصر إلى تقليص الآثار السلبية لأزمات اللاجئين والمهاجرين، وقدمت نموذجا في التعامل مع هذه القضية وفق مفهومها الخاص الذي يعتبر اللاجئين والمهاجرين «ضيوفًا». وشدد التقرير على أنه كي تعزز مصر نموذجها الدولي في التعامل مع الأزمة، فإنها تحتاج إلى الدعم والمساندة من المجتمع الدولي، بما يمكِّنها من تجاوز الضغوط على مواطنيها، وبما يشمل المقيمين الأجانب، بإطلاق مبادرة دولية لمعالجة أزمة الديون المصرية؛ حيث إنه في ظل مشكلات الوضع الاقتصادي، وارتفاع تكاليف المعيشة، تجد الدولة نفسها إزاء معادلة صعبة بين الحفاظ على مبادئها وقيمها وبين ظروفها التي قد لا تمكِّنها من الوفاء باحتياجاتهم.
وفي عام انطوي على درجة كبيرة من عدم اليقين، طُرحت التساؤلات حول المستويات المثلى للإنفاق العام الاستثماري الوطني، وكيفية تحقيق الاستقرار في الأسعار، إلى جانب تعزيز النمو الاقتصادي وتخفيف أعباء الدين العام. وأكد التقرير على أهمية أن تسعى السياسة الاقتصادية عامة والمالية خاصة إلي التحول من الانكماش المالي إلى الضبط المالي، وتحسين تخصيص الموارد ورفع الإنتاجية، باعتبارها عوامل أساسية للتنمية الاحتوائية الشاملة، والحد من الفقر.
لقد انتهجت مصر، في عام 2024، استراتيجية جديدة لإبرام صفقات كبرى تسمح بتدفق استثمارات مباشرة للداخل كجزء من برنامج الإصلاح الاقتصادي. وتعد صفقة «رأس الحكمة» مثالا بارزا على هذا الاتجاه. مع ذلك لا تزال التجربة المصرية في التخارج وصفقات الاستثمار المباشر حديثة عهد، وهي تجربة قابلة للتعديل والمراجعة، في ضوء ما يتكشف من نتائج. وأكد التقرير على أن تطبيق تخارج الدولة من الشركات العامة، وإبرام صفقات كبرى للاستثمار المباشر، قد لا يؤدي بالضرورة إلى تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة، ما لم يصاحبه توجه قوي نحو تعزيز القطاعات المدرّة للنقد الأجنبي، مثل الزراعة والصناعة، والنهوض بالصناعات الصغيرة والمتوسطة، والتركيز على تشجيع استراتيجيات دعم الصادرات.
وفي ظل التقلبات الاقتصادية والتغيرات الجيوسياسية، كان للتصعيد العسكري في البحر الأحمر أثره الشديد على مصر، مع تأثيره السلبي في تجارة النفط والسلع والبضائع بين الشرق والغرب، الذي انعكس على خسارة مصر أكثر من 60% من عائدات قناة السويس (7 مليارات دولار) بحلول أواخر عام 2024 مقارنة بعام 2023. لذلك أولت السياسة المصرية اهتمامًا خاصًا بعودة الأمن في البحر الأحمر، ودعت الدول المتشاطئة عليه إلى تعزيز التعاون بينها بصفتها صاحبة الملكية والمصلحة الرئيسية.
أكد عام 2024، على أهمية نشر عقائد وقيم الجيوش الوطنية التي تلتزم بالقانون، وتنحصر أهدافها في الدفاع عن أوطانها. وفي ظل إدراك ذلك واصلت القوات المسلحة المصرية عام 2024 مسيرة التطوير والتحديث على مختلف الجبهات، وعكست قيم ومعاني الانضباط والحرفية في السلوك، على نحو عبرت عنه تصريحات القيادة السياسية والعسكرية. كما استمرت في تطوير التعاون العسكري بين مصر وكثير من الدول، ما أكدته: المناورات والتدريبات المشتركة، والتصنيع العسكري المشترك، واتفاقيات التعاون العسكري مع عديد من الدول، والدورات التدريبية التي خصصتها الأكاديميات والمعاهد العسكرية المصرية لأفراد القوات المسلحة من الدول الشقيقة والصديقة.
التقرير الاستراتيجي العربي لعام 2024
على جانب الدبلوماسية، سعت مصر عام 2024 إلى توسيع دوائر الحركة الخارجية لتقليص أثر أزمات الإقليم؛ فحافظت على سمات الاتزان والانضباط في ظل أوضاع إقليمية ودولية شديدة الاضطراب. ولم تؤد الحروب والأزمات إلى خروج السياسة المصرية عن البوصلة الموجهة لحركتها منذ عقود.
ختاما، واصلت مصر عام 2024 مشروعها الوطني وسط الهموم الداخلية وفي ظل الأوضاع الضاغطة على أمنها القومي، على وقع الحروب الإسرائيلية في غزة ولبنان والتغيير في سوريا، وعلى وقع المفاجآت للإقليم والعالم، التي تزايدت مع مجيء الرئيس الأمريكي الجديد. وبينما تنافست الهموم الإقليمية لتشد مصر بعيدا عن مشروعها الوطني، فإن الطروحات اللّا متماثلة والخارجة عن النسق المتعارف عليه للعلاقات الدولية والقانون الدولي للرئيس ترامب تهدم القناعات والمسلمات، وتقوض الأسس والمرتكزات التي تأسس عليها السلام الإقليمي لعقود، وتطرح مخاطر وتحديات غير معتادة للأمن القومي المصري والعربي. وسوف يتمثل التحدي الأساسي في عام 2025 في استمرار تمسك مصر بأهداف مشروعها الوطني، في ظل هذه التركيبة اللّا متماثلة من التهديدات والمخاطر.