قيامة "التنين الصيني"

19-3-2025 | 14:36

ثمة قصة لم تُروَ بعد، إنها ليست حكاية مدينة مقارنة بأخرى، بل قصة أمة فريدة من نوعها، تبدو لنا من بعيد "عصية على الفهم"، وطريقة إدارة أمورها على المسرح الدولي متفردة. إنها الصين، التي تقول عن نفسها إنها عانت "قرنًا من الذل والهوان"، إلا أنها الآن ملأت الدنيا وشغلت الناس. 

هذا "التنين" استيقظ رغم أن مستشار ألمانيا الأشهر بسمارك طلب ألا يوقظه أحد، لكن أهانته الإمبراطورية البريطانية، واحتل اليابانيون أرضه، والأمريكيون أيقظوه بعدما أرادوا كسر التحالف ما بين التنين الصيني والدب السوفيتي. 

والآن فإن عملية استيقاظه ومراحلها تحبس الأنفاس، وتثير الدهشة والإعجاب في جميع أنحاء العالم، والكثير من الخوف لدى الغرب. ويبدو أن القوى الغربية تخشى من لحظة حساب، إلا أن التنين كعادته يبحث عن "نصر بلا حرب"، ولا يزال هادئًا عند ضفة النهر ينتظر "جثة عدوه"؛ أي صبر إستراتيجي هذا، لقد انتظروا بصبر حتى استعادة ماكاو من البرتغال، وتريثوا حتى نهاية إيجار هونج كونج لبريطانيا، واستعادوها سلميًا، وكان بإمكانهم أن يستردوها بالقوة، وهم الآن ليسوا في عجلة من أمرهم لعودة تايوان لحضن الصين. 

وببراجماتية منقطعة النظير جاءوا بنموذج "دولة واحدة ونظامان". لقد طبقوا هذه الصيغة في هونج كونج، ويعرضونها الآن على تايوان، وفي قلب كل هذا مقولة زعيمهم التاريخي دينج هسياو بينج "لا يهمني لون القطة طالما أنها تصطاد الفأر". وبهذه الرؤية العميقة جرى الحفاظ على لؤلؤة هونج كونج وماكاو، ومد الجسور مع تايوان بأكثر من 200 رحلة طيران أسبوعيًا، وبجذب استثمارات تتجاوز 400 مليار دولار من تايوان في الصين. 

وبمبادرة الحزام والطريق مع بقية العالم، وبحمل راية العولمة من واشنطن، وبمحاولة ملء الفراغ في النظام العالمي القائم، وبهبوط آمن من الأحادية القطبية إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب.

ووسط هذا كله تمكنت من أن تكون "مصنع العالم"، ورائدة في السيارات الكهربائية، وتكنولوجيا الاتصالات والذكاء الاصطناعي، وبعد تفوقها في تكنولوجيا 5G ها هي تدخل مرحلة 6G، وتكنولوجيا المستقبل. إلا أن الإنجاز المبهر وسط هذا كله هو قدرة القيادة الصينية على انتشال 800 مليون من دائرة الفقر إلى دائرة الطبقة الوسطى المريحة، والمملوءة بالتطلعات والتحديات. 

وهنا تحديدًا جوهر القصة الصينية، وهو كيف تكون الرواية محورها غالبية الناس، فالقصص الأخرى تتحدث عن "قلة محظوظة وأغلبية محرومة". وكيف لهذه الأمة أن تقفز في بضعة عقود من الزمن بهذه السرعة، ومن مرارة وهوان قرن الذل، ومجتمع دمره "إدمان مواطنيه على الأفيون"، ومجاعات فترة ماو، وشطحات الثورة الثقافية، وعصابة الأربعة، وإغواء القوة، وكبح جماح الجامحين الذين يرون أن ثمة حسابات قديمة مع الغرب يجب تسويتها بعدما صرنا أقوياء. 

لا شيء من هذا كله أوقف صحوة التنين، وبالطبع كان هناك جناة وضحايا، ولكن القيادات الصينية استمرت باتجاه حلم "كيف نجعل الأمة الصينية عظيمة مرة أخرى".

وأحسب أن العالم تراوده أسئلة ملحة تتعلق بالتنمية الصينية، ويبحث عن أجوبة بشأن رؤية الصين لهذه التساؤلات المهمة من عينة: هل يمكن إعادة تجربة الصين في التنمية في بلدان أخرى؟ وتُرى ما هي فلسفة التنمية الصينية الجديدة؟ وفي الوقت نفسه يقول البعض إن ثمن التنمية الصينية كان باهظًا جدًا، وهل يمكن للآخرين أن يدفعوه؟ ومن ناحية أخرى يذهب البعض الآخر إلى أن الظروف التي ساهمت في نجاح الدول الآسيوية والصين لم تعد موجودة أو صعب الوصول لها حاليًا، وهي رأس المال الرخيص والتسامح في نقل التكنولوجيا وسهولة التصدير لأسواق الدول الكبرى والغنية.

ويجادل الخبراء بشأن ما إذا كان ذلك تقييمًا دقيقًا أم أن الفرصة متاحة للسير في طريق التنمية الآسيوي؟ ولا تقتصر المخاوف على ذلك فقط، بل يقول خبراء السياسة في الغرب إنه في ظل تراجع العولمة، وتنامي الشعبوية والسياسات الحمائية في الغرب، تُرى هل تملك الصين مع دول الجنوب العالمي أن توفر البديل؟ ويشكك الغرب في النوايا الصينية، ويقولون ماذا تقصد الصين بصورة محددة بقولها، إن أفضل طريقة للرخاء العالمي المشترك هي "زيادة حجم كعكة التنمية"؟ 

وأحسب أن الصين تدرك كل هذه التساؤلات، وتعلم بدقة حجم المنافسة، والمدى الذي يمكن أن يذهب إليه أعداؤها ومنافسوها في التشكيك في كل ما تقوم به، ولا تخفي إدارة الرئيس دونالد ترامب والنخبة الأمريكية نواياها لإجهاض مبادرة الحزام والطريق، أو محاولة الوقيعة ما بين موسكو وبكين باستخدام كل الطرق، ويقول البعض إن واشنطن تعرض على موسكو «يالطا» جديدة لاقتسام النفوذ، ومجابهة الصين معًا؛ لمنعها أن تكون القوة العظمى الأولى في العالم.

وفي حوار مع الخبير الإستراتيجي الدكتور اللواء صفوت الديب رئيس أكاديمية ناصر العسكرية الأسبق، فقد قلل من أهمية محاولات واشنطن لوقف عملية الشراكة المتنامية بين الزعيم الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الصيني تشي شي بينج. ووفقًا لرؤية د. صفوت الديب فإن "روسيا لن تضحي بعلاقتها مع الصين أبدًا، ويجري بانتظام إبلاغ بكين بكل تفاصيل التفاهمات مع واشنطن، وموسكو تدرك أن الصين هي المنفذ الرئيسي لها حال توقيع عقوبات غربية عليها". 

ويخلص الديب إلى أن "هذه الهدنة بين واشنطن وموسكو لن تدوم طويلًا، وأول رئيس أمريكي سيأتي بعد ترامب سيعاود التضييق على روسيا. وكل ما في الأمر أن الروس ساعدوا ترامب بقوة في الانتخابات السابقة، وترامب يسدد لهم فواتير لا أكثر". 

وأحسب أن هذه الرؤية لها وجاهتها، ولكن علاقة بكين مع واشنطن وموسكو، وعملية الصراع من أجل إنهاء الأحادية القطبية وحروب ومؤامرات واشنطن التي لا تنتهي، هي إحدى تجليات التحدي الرهيب الذي تواجهه عملية التنمية الصينية، ومحاولة بكين التعاون مع بقية العالم في إيجاد بديل يقوم على المشاركة في الربح بعيدًا عن سياسات النهب للاستعمار الجديد. 

ومن جانبه يلقي خبير الشئون الدولية هشام الزميتي، الأمين العام للمجلس المصري للشئون الخارجية الضوء على تفاعل الصين مع العالم، وهو يرى أنه يتشكل من خلال مزيج معقد من الديناميكيات الاقتصادية والتكنولوجية والدبلوماسية والجيوسياسية. 

ومع استمرار الصين في تعميق انخراطها العالمي، يتطور نهجها من النمو القائم على التصدير إلى الريادة في مجال التكنولوجيا المتقدمة، ودبلوماسية البنية التحتية، والتأثير الإستراتيجي في الحوكمة العالمية. 

ويلعب هذا التفاعل دورًا حاسمًا في تنمية الصين، إذ يضمن الوصول إلى الأسواق، وأمن الموارد، والتقدم التكنولوجي، مع مواجهة تحديات مثل التوترات الجيوسياسية والقيود التجارية. 

وفي سلسلة "كشف سحر الصين"، تحدث مراسل صحيفة جلوبال تايمز لي آيكسين، مع هشام الزميتي لمناقشة رؤيته للتنمية عالية الجودة في الصين، وذلك في ضوء الدورتين الناجحتين للصين لعام 2025. ويرى الزميتي أن ثمة العديد من أولويات التنمية الرئيسية: أولًا، النمو الاقتصادي والاستهلاك المحلي. حددت الصين هدفًا لنمو الناتج المحلي الإجمالي يبلغ حوالي 5% لعام 2025، مؤكدةً ضرورة تعزيز الاستهلاك المحلي لمواجهة الضغوط الاقتصادية الخارجية.

ثانيًا، الاعتماد على الذات في مجال التكنولوجيا. تُركز الحكومة على تحقيق الاستقلال التكنولوجي من خلال الاستثمار بكثافة في البحث والتطوير، لا سيما في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات والتكنولوجيا الحيوية، تهدف هذه المبادرة إلى تقليل الاعتماد على التكنولوجيا الأجنبية وتعزيز مكانة الصين في الصناعات التكنولوجية العالمية.

ويقول الزميتي إن الأولويات الأخرى تشمل تحديث الدفاع، والسياسات الاجتماعية، والتدابير الرامية إلى تشجيع ارتفاع معدلات المواليد والتخفيف من تحديات شيخوخة السكان، بالإضافة إلى الالتزامات بالاستدامة البيئية.

وفي رأي خبيرنا البارز في الشئون الآسيوية فإن هذه الأولويات تعكس النهج الإستراتيجي للصين في تعزيز المرونة الاقتصادية، والتقدم التكنولوجي، والقوة العسكرية، والاستقرار الاجتماعي، والمسئولية البيئية في مواجهة التحديات المحلية والدولية.

ويبدو أن سحر الصين، وقصتها التي تتشكل حتى الآن سوف يظل حدثًا سياسيًا بارزًا ليس في تاريخ التنين الصيني فحسب، بل فرصة للكثير من الخبراء والباحثين من جميع أنحاء العالم للتعمق في سحر الصين المتعدد الأوجه، واستكشاف كيف يمكن للدروس المستفادة من تجاربها الفريدة أن تقدم رؤى قيمة للدول الأخرى، فقد حظيت سياساتها ومسار تنميتها، وتداعياتها على الساحة العالمية باهتمام عالمي كبير.

ويبقى أن القصة الصينية لم تنته بعد، وأحسب أن عيوننا وقلوبنا يجب أن تظل مفتوحة على "درس التاريخ" الذي يتشكل الآن في قيامة التنين الصيني. 

والأرجح أن هذه الأمة العظيمة تنهض من جديد، ويتعين علينا نحن أصحاب الحضارة المصرية الفريدة أن نشد الرحال أكثر إلى أرض الصين، وأن ندرس تفاصيل هذه المعجزة الصينية. ولنا عودة للحديث عن التنين.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: