في ظل الحديث عن حروب الجيل الرابع والخامس وما تعتمد عليه من بث لليأس والإحباط وبث للسموم وتفتيت للمجتمع من الداخل، نجد أن الأعمال الدرامية، خلال السنوات الأخيرة، أصبحت جزءًا من هذه المشكلة وأداة لهدم العديد من ثوابت المجتمع. في كل موسم رمضاني تصدر أزمات جديدة بتسويق درامي لمشاهد العنف وترويج للبلطجة، ما يظهر البطل الشعبي كـ"فتوة" منفلت يعتمد القوة والقسوة ويفرض الأمر الواقع في محيطه، ولا بأس من وجود شخصيات نسائية في دور البطولة الثانية، تظهر المرأة على هامش المجتمع مشغولة بخلافات التعدد وتتنافس مع صديقاتها أو جيرانها على قلب البلطجي البطل المغوار، وقد تستخدم السحر والأعمال السفلية وتروج للدجل والشعوذة، وكل ما يبعدنا عن أسباب العلم والتحضر، وبما يرسخ حالة الانفلات الأخلاقي، ويساهم في هدم قيم المجتمع الأصيل.
لا نستطيع الادعاء أننا نعيش في عالم مثالي، لكنها أزمة التناول، تغليب الاستثناء والشاذ والنادر وتقديمه في صورة الأغلب والأنجح ليتم قبوله واستساغته. الأكثر إثارة للدهشة أن هذه الأعمال هي الأكثر مشاهدة في رمضان، وذلك حسب تقارير المشاهدة الأولية التي يعلنها المنتجون كنوع من السبق لحصد حصة إعلانية، حتى لو على خلاف الحقيقة "لن نعرف أبدًا دون بحوث متخصصة معلنة". ورغم أننا بحساب موضوعي نسعد بسيطرة فنية مصرية على القنوات العربية، إلا أن انحسار التناول في قضايا العشوائيات والانحراف والانهيار يسهم في تراجع التأثير الإيجابي الذي يليق بمصر كدولة ذات حضارة مؤثرة.
في المقابل، نجد أن المسئولين عن الدراما المصرية، في الشركة المتحدة، قد بدأوا في مواجهة هذا التحدي بتقديم أعمال أكثر احترافية؛ توازن بين المحتوى والقبول الجماهيري. وهو ما انعكس على إنتاج متميز ظهر هذا العام بصورة أكبر من الأعوام السابقة، وشهدنا فيه تنوعًا ملحوظًا بين الكوميدي والاجتماعي والدرامي، مع مراعاة تجنب سلبيات سابقة مثل المط والتطويل، وتم الاعتماد على الجودة الفنية ووجوه جديدة بالتوازي مع نجوم الصف الأول.
وبإجراء مقارنة بسيطة بين المشاهدات على القنوات المصرية مجتمعة نجد أن تأثيرها يضاهي وربما يتفوق على القنوات العربية، لكننا لا نعطيها نفس قدر الاحتفاء والمباهاة، وتظل النتيجة التي يفتخر بها أي إنتاج إقليمي مرتبط بوجود نجوم الفن المصري، وهي حقيقة تستحق منا الامتنان بالفن المصري.
وعلى الجانب الآخر من القوة الناعمة نجد "إفطار المطرية" الذي ينظمه شباب عزبة حمادة في قلب القاهرة، ونجحوا رغم حالة الجدل المعتاد على مدار سنوات في تنظيم فعالية، وحدت جهود أهل المنطقة في إفطار يعد تطورًا لفكر صوان "مائدة الرحمن"، لكنها هنا تحولت من منضدة واحدة في حارة صغيرة إلى موائد تصطف من شارع لآخر، ومن 10 شباب اتفقوا على مشاركتها، إلى مئات المنظمين، قبل أن تتوسع وتتحول إلى كرنفال شعبي سنوي امتد إلى 20 شارعًا، ونجح في استضافة 50 ألف شخص يتشاركون في إفطار واحد، بل ويخصصون منه مناضد للإفطار الصيامي للمسيحيين المشاركين في حدث كله قيم ومعاني إيجابية.
ومن جمال أهدافه وتنظيمه تهافت على حضوره الضيوف خارج المطرية ليس فقط من داخل محافظات مصر المختلفة، لكن أيضًا من دول بالخارج وصل إليهم أثر ومشاهد الاستعدادات والاحتفالات الشعبية عبر منصات التواصل المختلفة، حالة عظيمة دفعت عددًا من الوزراء والمسئولين والشخصيات العامة إلى المشاركة بهدف التهنئة والدعم والمساندة "وجميعنا يعرف أن حضور مسؤول لأي مكان يعزز من تنميته عبر متابعة الاحتياجات وتشجيع الجهود وإزالة التحديات" وأقل فوائد التواجد الرسمي فرصة للتواصل الجماهيري وسماع صوت الشارع، ونشر تفاصيل الاحتفالية على المنصات الإعلامية الرسمية بنفس مكانة فعاليات كبار المسئولين في الدولة كتقدير لجهد شباب يشرف، ودون أن تحاول أي جهة رسمية القفز على المجهود الجماهيري الشعبي.
وهكذا نجح شباب المطرية في تحويل يوم 15 رمضان إلى مناسبة قومية داخلية تهافت عليها المؤثرون ونجوم السوشيال ميديا يبثون صورًا لمصر الحقيقية، "عيد لحي المطرية" ينتظره أهل المنطقة ويشاركون في تمويله ذاتيًا وتفتح كل بيوت المنطقة أبوابها للمساهمة في إعداد وجباته بداية من المحشي الوجبة المصرية الأشهر على المائدة الرمضانية الذي تتولى تنفيذه السيدات وتقوم بإعداده بالمنازل، ليتوسط أطباق المائدة التي تجهز عبر مطابخ محترفة تستعين بأمهر الطهاة، تنصب في أحد الشوارع الرئيسية، التي تتزين جميعها بالأنوار التي تمتد من الشرفات إلى تهيئة الحواري وتنظيفها، فضلًا عن دهان الحوائط وتزيينها بأجمل رسومات الجرافيتي مع تحديد كل عام لشعارات وصور لفنانينا ونجومنا وأمثالنا.
هذه هي الحارة المصرية وشبابها بينهم المتعلم والمهندس والطبيب والمصور والصنايعي والمحامي والصحفي قابلتهم جميعًا في المطرية، وهذه فتياتنا الجميلات المتزينات بوقار يحفظ الأصول المصرية، بينهن الجامعية والطبيبة والمعلمة وست البيت وربة الصون والعفاف، هل نتذكر هذه التعبيرات، هذه المكانة! إفطار المطرية حالة مصرية خالصة وصلت للعالمية وسجلت في الموسوعات، كرم وضيافة وحسن تنظيم وتوحيد جهود يستحق الاحتفاء وتخصيص أعمال درامية عنه، تحكي ما يعكسه من جوهر حياتنا وتفاصيلها، أتمنى أن أرى حكايته في مسلسل يصحح ما شوهته عمدًا أو دون قصد أعمال أخفت جوهر الشخصية المصرية تحت ركام الفهلوة والنطاعة والمحسوبية والبلطجة.
إفطار المطرية هو حملة تسويق لمصر علينا جميعًا أن نستثمرها، وهو ما عكسه بشكل تلقائي اختيار المنظمين لشعار "مصر بخير الـ 11 غير".