المفتي والفلسفة

19-3-2025 | 13:21

قام الإمبراطور الروماني جستنيان في القرن السادس الميلادي بإغلاق الأكاديمية التعليمية التي أسسها أفلاطون، وكذلك مدرسة أرسطو، وكلاهما استمر في العمل والتعليم لمدة اقتربت من 9 قرون. وكان الإغلاق بمقولة أن الدراسة بهما لا تناسب دين الإمبراطورية المسيحية. وقبلهما بسنوات تم سحل والقضاء على الفيلسوفة المصرية هيباتيا ومدرسة الإسكندرية بحجة الهرطقة، وأن الفلسفة ضد الدين. 

ولحسن الحظ انتقلت مدرستا أفلاطون وأرسطو إلى الشرق، ومنها إلى بلاد فارس؛ حيث رحب الإمبراطور بهما، فتم الحفاظ على استمرار عطاء الفلسفة لاسيما تعاليم الفلاسفة اليونانيين في عصرها الذهبي من سقراط وأفلاطون إلى أرسطو وما بعدهم. 

وأدى ذلك فيما بعد ومع النهضة الإسلامية في عصر العباسيين والاختلاط مع الفرس والحضارات الأخرى، إلى تطور الفكر الفلسفي نفسه وظهر الفارابي والغزالي وابن سينا، ونشأ علم الكلام والمعتزلة والذين أسسوا لفلسفة عقلية، وانتقلت الفلسفة -التي حافظ عليها المسلمون وطوروا مناهجها، ومنها النظر العقلي بالقضايا الفقهية- إلى بلاد الأندلس فزاد الإسهام على يد ابن رشد وغيره، ومنه انتقلت إلى أوروبا مرة أخرى التي كانت تعيش في ظلال العصور الوسطى، وسطوة رجال الدين والتعاليم المدرسية ومحاربة التجديد، بل إلى إعدام المخالفين لاسيما من العلماء مثل جاليليو وغيره. 

وبعد عقود اعتذرت الكنيسة وتم التخلص تدريجيًا من سطوة رجال الدين على التعليم، وبدأت المذاهب الفلسفية في الظهور من ديكارت وبيكون وهيوم وكانط وغيرهم إلى أن استقرت أمور تدريس الفلسفة في القرن التاسع عشر، وهو ما ساهم في إحداث وتطور النهضة العلمية وتأثير كليهما على الآخر.

لذلك خصص د. نظير عياد مفتي الديار المصرية إحدى حلقات برنامجه التليفزيوني مؤخرًا للحديث عن أهمية دراسة الفلسفة وعلاقتها الجيدة بالشريعة، فقال إنهما وجهان يكملان بعضهما؛ لأن الفلسفة تعني الحكمة، والشريعة تبتغي الحكمة من الدين، وهي من الأمور التي يدعونا إليها القرآن الكريم، وبالتالي فالفلسفة من نتاج العقل الذي خلقه الله تعتبر من الأمور المستحبة، وأكد أننا -وقتنا الحالي- في أشد ما نحتاج فيه إلى الفلسفة والحكمة وإعمال العقل والاجتهاد الذي حثنا عليه رسولنا الكريم محمد؛ لنواجه قضايا عالمنا المعاصر، وهي كثيرة ومتشابكة، ولذلك فالفلسفة تساعد على حل التشابكات المعقدة، فدراسة الفلسفة مستحبة.

مثل هذه الآراء وحديث المفتي، وهو الدارس المتخصص للعقيدة والفلسفة حتى حصل على درجة الأستاذية بها، نحتاجها بشدة الآن، في الوقت الذي تواجه فيه دراسة الفلسفة محاولات التهميش الشديد، حتى تم إلغاء تدريسها مؤخرًا بالقسم الأدبي بأكمله في الثانوية العامة الحالية، وبقيت كمادة للدراسة في الصف الأول الثانوي فقط، بعد أن جرى تقليص منهجها كذلك.

اللافت أن مصر كانت من أوائل الدول التي قررت تدريس الفلسفة في نهاية العقد الأول من القرن العشرين، على يد سعد زغلول، حينما كان وزيرًا للمعارف، وفشلت محاولات وأد التفكير الفلسفي بالجامعة مع طه حسين ومصطفى عبد الرازق؛ لذلك وفي الربع الثاني من القرن الماضي قررت اليونسكو ضرورة تدريس الفلسفة للطلاب في المرحلة الثانوية، وفي بعض الدول مثل فرنسا يتم تدريسها من مراحل مبكرة، وإجبارية للطلاب في كافة الشعب الدراسية، بينما نحن نلغي تدريسها للقسم الأدبي، وبعض أقسام الكليات الآن يعاني من قلة عدد الملتحقين به؟!

رغم ما أوضحه مفتي مصر بأن دراسة الفلسفة هي من أوجب المعارف التي يتوجب دراستها في عالمنا المعاصر الحالي لأنها تفتح بابا للاجتهاد العقلي، وتساعد في فهم وتحليل الكثير من القضايا التي أصبحت ملحة في عالمنا الحديث، ونحتاج إلى المنطق والعقل لفهم كثير من هذه القضايا، والفلسفة هي من أكثر الأدوات والمعارف التي تساعد على ذلك.

وعلى سبيل المثال قضية تطور التكنولوجيا في صورتها الحالية والذكاء الاصطناعي، فهي أدوات مفيدة للحصول على المعلومات، ولكنها في نفس الوقت تحمل أفكارًا، فالخوارزميات رغم أنها رياضيات ولكنها تحمل توجهات وقيمًا، ومنها قيم السوق والاستهلاك والفردية وربما الانعزالية، هذه القضايا الفكرية ليست رفاهية أن نفهم المغزى في التعامل معها، والفلسفة هي الوسيلة لفهم مثل هذا الإنتاج العلمي والاقتصادي، وحتى لا يصبح الإنسان أو الفرد هو مجرد أداة لمن يملك هذه التكنولوجيات المتقدمة، ففي التعليم كانت هناك إشكالية التابلت والامتحانات به للطلاب الصغار، وبرغم سهولة التعامل به وتوفيره للوقت، إلا أن تطبيقه، خاصة في المراحل الأولى من التعليم، أدى إلى ظهور مشكلات؛ منها عدم جودة وإتقان القراءة والكتابة، واضمحلال دور المدرسة في توطيد العلاقات الاجتماعية والإنسانية بالاختفاء وراء جهاز لتأدية العملية التعليمية، وهو ما جعل دولة متقدمة مثل فنلندا، التي تحتل المراكز الأولى تعليميًا في العالم، تلغي التابلت بعد سنوات من تعميم استخدامه بالمدارس، والعودة إلى الكتابة بالقلم، بعدما كشفت النتائج عن تدهور في مستوى الكتابة، حتى لأبسط العمليات الحسابية، وهذا ليس معناه عدم التفاعل مع أدوات العصر، وإنما الإدراك لمراحل ولمضمون استخدامها والاستفادة القصوى منه، وهذا يستدعي وجود عقلية نقدية تفكر وتستنبط العلاقات بين الأشياء، وهو ما دعا مؤخرًا الحائزين على نوبل في الفيزياء، وكان تخصصهم في الذكاء الاصطناعي وتطوره، إلى التحذير من عدم وجود مدونات وفلسفات للتطوير، وأن عدم وجود الأطر الفلسفية قد تجعل الذكاء الاصطناعي يحاكي وربما يتفوق على الذكاء البشري، وطالبوا بوجود فلسفة لهذا التطور التكنولوجي والفكري.

لذلك تشير بعض الدراسات العلمية مؤخرًا إلى ضرورة تبسيط الفلسفة من مراحل مبكرة في الدراسة، حتى يتعرف الطلاب على أسس التفكير، وربط الظواهر وفهمها، وأسس التفكير العلمي والتقدم ومناهج البحث، وتبحث في الأسباب والعلل، وإلغاء دراسة الفلسفة، كما حدث هذا العام للقسم الأدبي، يؤثر أيضا اجتماعيًا في خلق جيل لا يستعمل عقله، وإنما يكون مجرد أداة للآخرين، وصدق المفتي حينما ختم حديثه بالقول: "الفلسفة مستحبة؛ لأنها تفتح باب الاجتهاد، والذي أحبه الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم).

كلمات البحث