«ذاكرة الصحافة المصرية».. المشروع الحُلم لـ«نقابة الصحفيين»

17-3-2025 | 14:11
;ذاكرة الصحافة المصرية; المشروع الحُلم لـ;نقابة الصحفيين;صحف ـ صورة تعبيرية

مصر.. بلد نشأت به الصحافة المعاصرة في القرن التاسع عشر مع صدور «الوقائع المصرية»، لكن لو سألت أي من العاملين في الصحافة والمؤرخين والباحثين عن مكان يضم أرشيف للصحافة المصرية، سوف تكون الإجابة أن هناك بعض الأماكن تضم بعض الصحف والمجلات المصرية، لننتقل إلي سؤال آخر: هل يوجد لدي مصر أرشيف رقمي للصحف المصرية؟ .. سيكون الرد هناك جهود مبعثرة هنا وهناك،  فالبحث عبر «جوجل» لا يتيح البحث فيه لغير العناوين، كما يضم أرشيف الصحافة العالمية بعض الصحف المصرية، وكذا المكتبة الرقمية العالمية، كما تتناثر العديد من الصحف والمجلات المصرية النادرة في المكتبات والمجموعات الخاصة في الخليج العربي، وتحتفظ مكتبة الكونجرس بنوادر هامة من الصحف والمجلات المصرية، ولن أصدمك عزيزي القاريء حين أقول إن هناك دول لا تخطر علي ذهنك لدي مكتباتها نوارد من المجلات المصرية التي لا تتوافر في مصر.

موضوعات مقترحة

لقد فقدت مصر جانبًا من تراثها الصحفي، ولم يشعر بألم فقد هذا الأرشيف إلا الباحثين المدركين لقيمة تلك الكنوز، ومن هنا نهضت "نقابة الصحفيين" لبناء أرشيف رقمي يضم نوادر الصحف المصرية، خاصة الصحافة التي ترجع لعصر الخديو اسماعيل ثم من تلاه من حُكام مصر، وهي مجموعة من الصحف والمجلات النادرة، غير أن هذا المشروع توقف منذ أربعة سنوات، والآن يجري العمل عليه من جديد في رؤية أكثر اتساعًا. 

إن الحقيقة المُرة أننا إلي الأن لا نمتلك ببليوغرافيا كاملة لما صدر في مصر من مجلات وصحف، خاصة تلك التي كانت تصدر في الأقاليم مثل: أسيوط، طنطا، المنصورة، وهناك مجلات صدرت واختفت في زمن قصير، وللأسف الشديد تسرب جانبًا من هذه الصحف والمجلات خارج مصر، هذا ما يعني أننا مستقبلاً سنكون مرغمين علي الرجوع إلي مصادر غير مصرية للحصول علي نماذج منها.

الصحافة هنا ليست أوراقًا، لكنها مصادر تاريخية وتسجيل ليوميات الوطن أي «ذاكرة الوطن»؛ لذا بات من المهم بناء أرشيف رقمي للصحافة المصرية، إلى جانب الأرشيف الورقي، وهو ما يقتضي بناء مشروع متكامل لهذه الغاية، وهذا ما قد يقود إلى فكرة طموحة مفادهاؤ بناء متحف للصحافة المصرية. 

من المُفيد أن يُبنى بالتوازي أرشيفًا وثائقيًا يضم وثائق الصحافة المصرية، كملفات الصحفيين والكتاب الذين رحلوا، ووثائق تأسيس الصحف والمجلات المصرية، ثم القرارات المتعلقة بالعمل داخل هذه الصحف، ثم أنه يجب أن يتكامل مع هذا أرشيف متكامل للصور الفوتوغرافية، خاصة أن مصر فقدت جانبًا كبيرًا من أرشيفها من المصور؛ ولذا فإنه من الخطورة بمكان الاستمرار في هذا النزيف، كما يجب أن يضم متحف الصحافة المصرية الكاميرات بكافة أنواعها وأجهزة التحميض والطباعة، إلي جانب ماكينات طباعة الصحف، وهذا يعني أيضا أنه كلما تأخرت مصر في إنجاز هذا المشروع سيكون هناك من ينجزه خارج مصر، فضلاً أن هذا الأرشيف سيدر عوائد مالية تتيح تغطية نفقاته، إذا أحسنت إدارته طبقًا لاقتصاديات الإبداع في عصرنا، كما أن المتحف الذي سيصاحبه سيدر عوائد أخرى.

إن هذا الجهد يقتضي من أسر الصحفيين الراحلين التعاون لأرشفة تلك الكنوز، فما لايُتاح لدي المؤسسات موجود لدي الأسر، كما يقتضي ألا تتمسك المؤسسات الصحفية بما لديها، فبدون تعاونها لن يبني هذا الأرشيف، خاصة أنها فقدت جانبًا من أرشيفها، كما أن تحفيز أصحاب المجموعات الخاصة في مصر علي تقديم ما لديهم لهذا الأرشيف مما يجعل فرص تكوينه ممكنة، ما يستلزم تكوين فرق عمل بحثية تكون كوادر متخصصة بالتدريب في تاريخ الصحافة في مصر.

إن كل ما سبق يقودنا إلي أنه في الفضاء الرقمي للصحافة إذا لم توجد معايير صارمة ستضطر المؤسسات الإعلامية المصرية إلي  شراء مواد أرشيفية من أرشيف أو صور بمبالغ طائلة من خارج مصر، وهو ما سيشكل عبئا علي موازانات الاعلام المصري، بل سيكون الأرشيف الرقمي المصري مصدرًا يُدر عملات صعبه لمصر، ومركزًا يُعزز مكانة مصر في الفضاء الإعلامي الدولي، خاصة أن مصر كانت تصدر بها صحف ومجلات باللغات: الإنجليزية، والفرنسية، واليونانية، والتركية والإيطالية ..... الخ .

هذا يقودنا إلي أن الصحف هي المصدر الأساسي لتسجيل وجهات النظر الاجتماعية والسياسية يوميا؛ فهي توفر مواد تعتبر نافذة علي تطور الأحداث في وقتها، لكن يجب توخي الحذر عند التعامل معها فهي لا تحظي بالقدر الكافي من العمق فدورها هو إعلام معاصريها بالأحداث وما يدور حولها فضلا عن التأثير عليهم أو تضليلهم أو الترفية عنهم .

بالرغم من هذا فإن العثور علي ما يبتغيه الصحفي أو الباحث عبرها، خاصة من الصحف الصادرة من سنوات أمر بعيد المنال، خاصة مع توفر ألاف المصادر الرقمية التي تقدم روايات للأحداث مناهضة للرؤية الوطنية، هنا الرؤية الوطنية عبر الصحافة باتت أمرًا حتميًا في تقيم مجريات الأحداث؛ لذا فإن المسح الضوئي للصحف والمجلات المصرية قبل العصر الرقمي أمرًا لا مفر منه.

ويتطلب بناء أرشيف رقمي للصحافة المصرية ما يلي:

ـ تحديد قاعدة بيانات الصحف التي صدرت في مصر، وهو ما تم الانتهاء منه بصورة أولية حيث أن هذه القاعدة سيجري تطويرها بصورة مستمرة، وهذا ما يتطلب وصفًا دقيقًا للمحتوي يتضمن النطاق التاريخي والجغرافي.

الكلمات المفتاحية والتصفح: عند بناء الأرشيف ستكون الكلمات المفتاحية هي أساس التصفح؛ لذا فإن البحث عن "القضية الفلسطينية" على سبيل المثال وجذورها في الصحافة المصرية، سيقودنا إلى وعي مبكر بخطورة الاستيطان الصهيوني في فلسطين يعود إلي بدايات القرن العشرين، ثم تصاعد هذا الوعي، ليبقي التساؤل متي بدأ هذا الوعي؟، وعلي يد من؟، وفي أي صحيفة؟، وكيف تصاعد؟.

هذه الأسئلة هي ما يمكن البحث عنه في أرشيف الصحافة رقميًا، وهذا ما سيقدم إجابات علي أسئلة مُثارة في عصرنا، مثل متي بدأ معي المصريين بـ"الوطنية المصرية" في ظل الدولة العثمانية؟، ليجيب الأرشيف الرقمي للصحافة أنه نشأ في عصر الخديو إسماعيل عبر عدد من المقالات التي طرحت هذا في ظل رؤية نامية بالدولة الحديثة المعاصرة، وكان أحد أسبابها سيطرة الأجانب علي الجيش المصري وتسببهم في كوارث، وجشع الأجانب المغامرين وإضرارهم بمصالح مصر .. الخ .

مثل هذه الأسئلة والإجابات عليها قد تكون ضرورية لكن البرهنة عليها تتطلب أدلة عبر السياق الزمني والمكاني، هذا ما سيوفره الأرشيف الرقمي للصحافة، ويمكن في هذا السياق الاسترشاد بتجربة الأرشيف الرقمي للديلي ميل (1896 – 2016م)، ويعد الأرشيف الرقمي لفاينشيال تايمز الممتد من (1888 -2010م) نموذجًا أخرجيد يمكن الرجوع إليه خاصة أنه يغطي فترة 122 عامًا، وما به من مواد تقدم مادة ثرية في مجالات التاريخ والادارة والاقتصاد والسياسة.

لقد أحدثت الأرشيفات الرقمية تحولاً جذريًا في مشهد البحث؛ مما أدي إلي الوصول لمواد نادرة التي يمكن الاحتفاظ بها في مكتبة «نقابة الصحفيين» فمجموعة النقابة من الصحف التي تمتد من عصر الخديو إسماعيل إلي عصرنا، تقدم لنا مفاجأت مذهلة تحتاج إلي إعادة بناء تاريخ الصحافة المصرية، فضلا عن تقديم رواد مجهولين حاليًا في تاريخ الصحافة المصرية، ومعطيات جديدة في التاريخ الوطني، مثل قبول المصريين إصدار الجنية المصري كعملة ترشخ الاستقلال الوطني الاقتصادي عن الدولة العثمانية وبريطانيا، ومما تم اكتشافه مؤخرًا في مكتبة "نقابة الصحفيين" مخطوط نادر يعود إلى عصر محمد على باشا، قام بتأليفه أحد الطلبة المبتعثين الذين أرسلهم الباشا للدراسة خارج مصر.

إن المخطوط النادر الذي تم اكتشافه خلال أعمال الجرد التي تجريها نقابة الصحفيين لمكتبتها، يعود للقرن التاسع عشر، حيث كُتب يدويًا بالحبر الأسود، بينما صيغت العناوين بالحبر الأحمر، ويعود تاريخه إلى عصر محمد علي، وهو مخطوط لا نظير له في مصر أو في أي مكان آخر في العالم.

هذه النسخة النادرة هي الوحيدة التي وصلت إلينا من هذه المجموعة من الكتب، تم ترجمتها من الفرنسية إلى العربية، ورغم الجهود الكبيرة التي بُذلت في البحث عن نسخ مماثلة، لم يتم العثور على أي منها.

وتضم مكتبة القناقة مجموعة من الروايات والكتب التي لعبت دورًا مهمًا في نشر المعرفة، ومن بينها رواية "علم الدين" لعلي باشا مبارك، وهو عمل بالغ الأهمية في التاريخ المصري، إذ اعتقد البعض أن هناك نسخًا أفضل منه، لكنه يظل من أندر الكتب المتوفرة.

أن النقابة ما زالت تحتفظ بأرشيفها الثري، رغم التحديات التي تعرضت لها المكتبات المصرية عبر السنوات، ومع ذلك قالمشروع يواجه تحدياً كبيراً في البحث عن صحف نادرة، مثل نسخة صحيفة «نزهة الأفكار» التي صدرت في عصر الخديو إسماعيل ولا يعرف مكانها حالياً؛ مما يجعل المهمة البحثية صعبة.

سيسعى المشروع لرقمنة جميع ملفات الصحفيين في مصر؛ لبناء ملفات شاملة تخدم الصحفيين في جميع المجالات، وسيتم استعادة الصور القديمة عن طريق مسح الصور في المجلات والصحف القديمة؛ بهدف بناء متحف للصحافة المصرية يضم هذه الكنوز الصحفية.

إذا، ما هو الأرشيف الرقمي للصحافة المصرية؟

مشروع يهدف إلى الحفاظ على ذاكرة الصحافة المصرية عبر عدد من البرامج والمشروعات، وذلك لاتاحتها لخدمة الجمهور والصحفيين، وبناء ذكرة مستدامة للصحافة المصرية، وخاصة مع فقدان مصر لأرشيف متكامل للصحافة المصرية، بعد أن تم الكشف عن ثغرات عديدة في أرشيف دار الكتب المصرية، وحريق مكتبة المجلس الأعلى للصحافة (2011م) ، وامتلاك نقابة الصحافيين لجانب مهم من الصحف والمجلات المصرية إلتى يعود بعضها إلى القرن 19م.

المدة الزمنية للمشروع

ينفذ المشروع في "نقابة الصحفيين" على عدة مراحل: تنطلق المرحلة الأولى منه في عام 2025م، والتى ستتيح عبر موقع رقمي المجموعة الأولى من الصحف والمجلات المرقمنة، والمرحلة الثانية ستنطلق من عام 2025 إلى 2026م، وفيها يتم افتتاح متحف الصحافة المصرية، ومن عام 2025 إلى 2030م يجرى استكمال الأرشيف الرقمي للصحافة المصرية، وبالتالي سيكون المشروع على ثلاث مراحل ممتدة من 2024 إلى 2030.

د. خالد عزب

مستشار نقابة الصحفيين لتوثيق وتطوير المكتبة


د. خالد عزب د. خالد عزب
كلمات البحث
اقرأ أيضًا: