ظل أهل الكرة سنين طويلة يعتبرون جوزيف بلاتر أذكى من أدار اللعبة فى العالم كرئيس للفيفا.. أذكى حتى من روبرت جورين الذى رأى كرة القدم لعبة تحتاج إلى إدارة وتنظيم فأسّس فى 1904 الفيفا وأصبح الرئيس الأول.. ومن جول ريميه الذى ظل رئيسًا للفيفا 33 سنة وحارب طويلاً ليؤسس فى 1930 بطولة كأس العالم التى أصبحت الدخل الرئيسى للفيفا والسبب الأول لدوام شهرة كرة القدم وانتشارها ونفوذها.. ومن جواو هافيلانج الذى أحال الفيفا من مؤسسة كروية لكيان اقتصادى ضخم.. وتعامل أهل الكرة مع بلاتر باعتباره الساحر الذى باستطاعته إخراج الأرنب من قبعته.. ورئيس الفيفا القادر على القيام بكل الأدوار سواء كقائد يستطيع صنع النجاح أو مهرج يحترف اللعب بالثلاث ورقات أو زعيم عصابة على استعداد لبيع اللعبة نفسها من أجل مصلحته الشخصية.. ولكن جاء جيانى إنفانتينو وتولى رئاسة الفيفا فى 2016 لتغيير هذه الصورة ويجبر الجميع على التعامل معه باعتباره الرئيس الأذكى فى تاريخ الفيفا.. وباعتباره أيضًا الرجل الذى يهدد بقاء واستمرار كرة القدم بشكلها الحالى نتيجة أفكاره الغريبة ومطامعه الشخصية وقدرته على إقناع الكثيرين بالموافقة على كل ما يريده ويحلم به.
موضوعات مقترحة
وفى اجتماع انعقد منذ أيام قليلة.. فوجئ الحاضرون باقتراح تقدم به فى اللحظة الأخيرة إيناسيو ألونسو مندوب أوروجواى بزيادة عدد المنتخبات المشاركة فى كل مونديال إلى 64 وأن تبدأ هذه الزيادة فى مونديال 2030 الذى تستضيفه إسبانيا والبرتغال والمغرب وأوروجواى والأرجنتين وباراجواى.. وكان إيناسيو يقرأ اقتراحه من ورقة مكتوبة سلفًا باللغة الإنجليزية.. وحين انتهى إيناسيو من قراءة الورقة أمامه.. ساد الصمت والذهول أيضًا.. ثم كان الاستغراب والسخرية.. فمعنى هذا الاقتراح هو أن يشارك فى نهائيات كل مونديال أكثر من ربع البلدان الأعضاء فى الفيفا.. وستفقد تصفيات المونديال إثارتها وقيمتها الكروية والتسويقية حيث سيصبح من السهل الوصول إلى النهائيات بعد زيادة عدد البلدان المتأهلة فى كل قارة.. وستزيد مدة كل مونديال لتقترب من شهرين كاملين حيث تدوم النهائيات شهرًا كاملاً بمشاركة 32 منتخبًا وأكثر من شهر بعدما زاد العدد إلى 48 فى المونديال المقبل فى الولايات المتحدة والمكسيك وكندا.
وكانت المشكلة الحقيقية هى تعليق إنفانتينو الذى لم يصمت ولم يعترض إنما أكد أنه اقتراح مهم وتنبغى دراسته بجدية لأنه قابل للتنفيذ.. وهنا بدأت الشكوك فى أن يكون إنفانتينو هو الصاحب الحقيقى لهذا الاقتراح المفاجئ.. واستند أصحاب هذه الشكوك إلى عدة حقائق أهمها أن إنفانتينو لم ولن ينسى حربه الدائمة مع أوروبا التى سبق أن أجهضت مشروعه لإقامة المونديال كل سنتين بدلاً من أربع سنين حاليًا.. كما أن زيادة عدد منتخبات النهائيات وزيادة زمن كل مونديال سيؤدى إلى مزيد من ارتباك بطولات أوروبا المحلية والقارية خاصة أن الاتحاد الأوروبى حاول كثيرًا إجهاض فكرة زيادة العدد إلى 48 منتخبًا فيريد إنفانتينو إزعاجهم أكثر بزيادة العدد إلى 64.. وبدأ كثيرون يتهمون إنفانتينو بأنه يسعى فقط إلى كسب المزيد من المال عن طريق بيع حقوق الرعاية والبث التليفزيونى لبطولة تضم 64 منتخبًا رغم أن هذه الزيادة قد تأتى بنتيجة عكسية.. وتساءل آخرون هل إنفانتينو بهذا الاقتراح يريد ألا تكتفى دولة واحدة باستضافة مونديال ضخم تشارك فيه منتخبات ومسئولو وجماهير 64 دولة.. علمًا بأن السعودية بمفردها ستستضيف مونديال 2034 وقد تكون فى حال تطبيق هذا الاقتراح واعتماده آخر دولة منفردة تستضيف المونديال أو يمكن إقناع السعودية بمشاركة بعض جيرانها باستضافة بعض المباريات.. ويرى كثيرون أن إنفانتينو يستطيع ذلك بعد نجاحه فى إقناع ستة بلدان فى ثلاث قارات للمشاركة فى استضافة مونديال واحد.. وبدأ المقربون من إنفانتينو الترويج لهذا الاقتراح بأنه سيسمح لبلدان كثيرة بالمشاركة فى استضافة نهائيات المونديال لأنها لا تملك الفرصة أو القدرة المالية والتنظيمية والبنية التحتية اللازمة لاستضافة المونديال بمفردها.. ويريد إنفانتينو ذلك إرضاء لبلدان أفريقيا وآسيا ليمتلك أصواتها فيبقى بفضلها رئيسًا للفيفا وواثقًا من قبول أى اقتراح أو مشروع يرغب فى تنفيذه.. فلا أحد فى أفريقيا وآسيا يقول لا لإنفانتينو حتى لو على حساب المصلحة الكروية لأى قارة منهما.
ولم تكن زيادة عدد المنتخبات فى نهائيات كل مونديال هو الأزمة الكروية الوحيدة التى طفت على السطح مؤخرًا.. أو الصدام الوحيد بين إنفانتينو وأوروبا.. فقد اعترض رؤساء روابط دوريات أوروبا على تخصيص مبلغ مليار دولار كمكافآت للمشاركين فى كأس العالم للأندية.. وإذا كان هؤلاء الرؤساء قد اعترضوا حيث سينال أى نادٍ أوروبى فى هذه البطولة مكافأة مالية تفوق كثيرًا ما يتقاضاه لو فاز بدورى بلاده أو حتى بدورى أبطال أوروبا.. لكن الملاحظة الأهم كانت لكلاوديوس شيفر رئيس رابطة الدورى السويسرى الذى تم انتخابه منذ أيام رئيسًا لرابطة الدوريات الأوروبية أثناء اجتماعها فى فرانكفورت.. فقد قال كلاوديوس إن الأندية الأقوى هى التى ستشارك فى كأس العالم للأندية.. وستمنحها هذه المكافآت الضخمة فرصة لأن تتعاقد مع لاعبين أكثر ومزايا كثيرة لن تملكها باقى الأندية فى كل بلد أو كل قارة.. وبالتالى ستصبح منافسة غير عادلة حيث القوى سيزداد قوة والضعيف سيبقى ضعيفًا.. وأن كأس العالم للأندية بهذا الفكر ستصبح بديلاً لدورى السوبر الذى سبق أن رفضته أوروبا ورفضت فكرة بطولة لن تشارك فيها إلا الأندية الغنية والكبرى وحدها.. وضرب كلاوديوس شيفر المثل بأكثر من دولة أوروبية لن تصمد أنديتها أمام هذه الفوارق المالية الضخمة.
والأزمة الثالثة كانت إعلان إنفانتينو بأن نهائى مونديال 2026 سيقتبس من كرة القدم الأمريكية ومباراة السوبر بول بالتحديد لتحديد بطل الولايات المتحدة كل سنة أسلوب الاحتفال والاستعراضات الغنائية التى تقام بين شوطى المباراة.. وأن فرقة الروك البريطانية كولدبلاى الشهيرة بدأت التشاور مع الفيفا لاختيار المطربين والفرق الغنائية التى ستشارك فى استعراضات ما بين شوطى نهائى المونديال المقبل فى ولاية نيوجيرسى.. ولم يشرح إنفانتينو هل معنى حديثه إطالة فترة الاستراحة بين الشوطين حتى يكفى الوقت للغناء والاستعراضات الراقصة.. وبعد هذا الإعلان بدأت مخاوف كثيرين بشأن رغبة غير معلنة لإنفانتينو بأمركة كرة القدم وتحويلها من لعبة للعالم كله إلى لعبة أمريكية بنفس الطقوس والشكل الذى يستهوى الأمريكيين.. وقال هؤلاء إن إنفانتينو بدأ بالفعل يسمح للرئيس الأمريكى دونالد ترامب بتحويل الفيفا إلى مجرد مؤسسة أمريكية.. وأن المفتاح الذى أعطاه إنفانتينو لترامب ويفتح جائزة كأس العالم للأندية فى انتظار أن يسلمه ترامب للنادى الفائز بالبطولة لم يكن فقط مفتاح بطولة وكأسها أو درعها إنما مفتاح الفيفا الذى أصبح فى يد ترامب.. ولم يكن ترامب يبالغ أو يكذب أو يقول كلامًا مرسلاً حين أكد ليلة حفل تنصيبه رئيسًا للولايات المتحدة أنه خلال العام الحالى حيث كأس العالم للأندية والعام المقبل حيث المونديال سيكون هو الرئيس الحقيقى والفعلى للفيفا ولكرة القدم فى العالم.
وبدأ بالفعل تنامى النفوذ الأمريكى داخل الفيفا وانتقلت الإدارة القانونية للفيفا من المقر الرئيسى فى زيوريخ إلى مقر جديد فى مدينة ميامى.. وتوقع كثيرون أنها خطوة مؤقتة حتى انتهاء المونديال المقبل فى 2026.. لكن اتضح فيما بعد أنه انتقال دائم وليس فقط من أجل المونديال.. وعلى مساحة أكبر من 5500 متر مربع فى مدينة ميامى.. بدأت الإدارة القانونية الجديدة للفيفا تباشر مهامها القانونية الخاصة بالعقود والشكاوى والقضايا.. وانتقل أكثر من مائة موظف من زيوريخ إلى ميامى.. وأعلن إنفانتينو أن مدينة ميامى هى التى ستتولى من الآن حسم أى قضايا كروية فى العالم كله وكل الشكاوى والاعتراضات والالتماسات والمطالب لن تذهب إلى زيوريخ ولكن إلى ميامى.. وفى أحد أغرب تصريحات إنفانتينو قال إنه ليس من الضرورى أن تبقى زيوريخ وحدها تدير كرة القدم فى العالم.. وفى تصريح آخر لا يقل غرابة قال إنفانتينو إن كرة القدم لابد أن تقتدى بكرة القدم الأمريكية.. ويبدو أن رئيس الفيفا نسى تمامًا أنه يدير شئون لعبة هى الأقوى والأكبر والأشهر فى العالم كله وأصبح على استعداد لتغيير ملامحها أو تخريبها فقط لإرضاء الأمريكيين.