مجتمعنا الذي لا أعرفه

16-3-2025 | 12:38

بعيدًا عن العولمة وعن التقليد المفرط لكل أمر مستحدث غريب يطرق أبواب مجتمعنا، مجتمعنا الذي حافظ على هويته زمنًا طويلًا ونجح في التصدي لما يقذف به من محدثات للأمور، بعيدًا عن عوامل جذب رخيصة وعن اعتقاد واه من بعض فتيات هذا العصر بأنهن الأنجح والأفضل؛ أظنك لا تختلف معي في أن وجود هذا الفرق الهائل بين تعريف ومعنى كلمة أحياء شعبية خرج أغلبنا من تحت عباءتها بكل فخر، وبين معنى ومفهوم يعبر عن عشوائية فرضت علينا عنوة فملأت مجتمعنا بالإسفاف والفوضى. 

قامت بعض المناطق بتصدير ظواهر اجتماعية وسلوكيات معيبة غريبة عنا، بعضها انتقل إلى عقول أبنائنا من خلال مشاهدتهم لتلك النوعية من الدراما التليفزيونية التي تدخل بيوتنا متخفية تحت مسمى مسلسلات اجتماعية، أعرض القليل منا عن متابعتها مستقرًا مؤمنًا بضرورة إعراضه عنها، فالفتنة حلت بنا ووقعت أحداثها من خلال عرض هذه النوعية على شاشات مأجورة تتبناها وتقوم على تمويلها بعض القوى التي تتمنى سقوط شبابنا في خضم شر مستطر، تهدف لإلقائه فيه بكل السبل الممكنة.

بدأت القصة عندما حادثني أحد الأشقاء العرب على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، هو إنسان عاشق لمصر محب لها بكل ما تحمله الكلمة من معنى، كان قد تلقى تعليمه في بلده الشقيق، ثم جاء إلى مصر ليكمل دراسته العليا فيها منذ عقود مرت، ولأنه كان مولعًا بها بقيت صورتها بذاكرته حية، تمنى في كل وقت مر به أن يعود إليها يومًا ما. 

وهذا ما جعله يبادر بسؤالي عن أحوالها التي أرقته، بعد أن رأى صورة لها لا تشبه صورتها التي اختزنها لها في ذاكرته تلك الصورة التي وصلته على أثر مشاهدته لبعض الأعمال الدرامية التي تعرض على شاشاتنا، كان يظن ومعه كل العذر أننا أصبحنا هكذا كما فهمت من تفاصيل حديثه عن صورة مختلفة لمصر لا يعرفها هو ولا أعرفها أنا، صورة مندسة في قلب أعمال فنية -هابطة- تنقص من قدرها ومن قدرنا.

أفاض في حديثه عن معارك تدور في الشوارع وعن قلقه مما شاهده من مشاهد عنف ومن سماعه لألفاظ نابية وردت بها، ثم أسهب في حديثه عن سيدات مصر وفتياتها اللاتي تعبر عنهن دراما مؤسفة لا تمت لهن بأي صلة، وكان عليّ أن أجيبه بصدق وأنبئه بأن هذه الأحداث التي تعرض لا تمت لمصر بأي صلة، التمست له الأعذار بعد أن عكرت تلك الأعمال صفاء فكرة مسبقة نبعت من ذكريات طيبة حملها معه، ذكريات حفرت بعقله وقلبه عن مصر وعن أهلها. 
 
وقبل أن أجمع مفردات حديثي لأسهب في توضيح الأمر له؛ انتابتني لحظة تعجب جعلتني أتأمل الوضع مرة أخرى أضرب كفًا بكف، بعد أن ظل سؤال واحد يطل برأسه متحديًا لي بعد أن ردده لساني عدة مرات حتى مللته، سؤال ود أن يخرج من داخلي ويطرح نفسه على الجميع متسائلًا: أين مصر؟ أين مصر التي نعرفها؟ مصر التي تسعى الأيادي الآن لطمس هويتها؟ أين مجتمعنا الفاضل الذي عشنا في أرجائه زمنًا؟ أين مجتمعنا؟ 

كانت الفتيات تتباهين بحيائهن وبرقتهن حين تتهادين بخطواتهن حين تلامس الأرض أقدامهن، لا تتنكر لهذا الشعور، لا تبغضه أو تسعى للتنصل منه، كانت الفتاة تمر في طريقها مرور فراشة غاية في الرقة والجمال والروعة تهفو بجناحيها وترفرف كالنسمات التي تمر فوق رأسها محاولة مداعبة خصلات شعرها، جميلات كن في المظهر والجوهر، لكنهن لم يكن ملفتات سافرات إلى هذا الحد الذي جعلهن يظنن أن هذا السفور وتلك المبالغة هى دليل أنوثتهن ووسيلتهن النافذة لجذب شباب عزف عن الارتباط بهن.

والآن استطعت أن أجمع كلماتي وأبعث له برد مناسب على سؤاله عن مصر التي عاشت وما زالت تحيا في خاطره وذاكرته، أبلغته بأن مصر التي يشاهدها على الشاشات ضمن محتوى مسلسل أو فيلم ليست بالحقيقة الكاملة، بل هى آتية من وحى خيال منسوج في ظلمات قلب وعقل لم يرد لمصر إلا الشر، رويت له قدرًا من حكايات الحقد ونوبات الغضب التي تعبث لتصب نيرانها على مجتمع مترابط كمجتمعنا، مجتمع مرتبط بعادات وتقاليد ومن قبله دين وخلق قويم يسعى الكثير لإفساده بهذه الكيفية وبهذا الشكل.

الأمر يستحق التوقف أمامه في الحال، يستحق التفكر والتأمل، يجب علينا أن نخوض حربًا لنشر الوعي برؤى شاملة متكاملة، لابد أن نبحث عن بدائل لما يتم عرضه علينا، فالمعروض يمثل سلوكًا غريبًا شاذًا لا يمثلنا، سلوكًا يزحف نحونا بجرأة، يتخفى في البداية ثم يكشف عن قبح وجهه الذي لن يضيف لنا بقدر ما ينتقص منا، بعضنا يلهو في ساحات لهوه متعللًا بضعفه، والبعض اكتفى بندب حظه ونسى أن دوره هو الدفاع دائمًا وأبدًا عن مصر.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: