في تقرير عن التعليم بدول العالم بثته القناة الفرنسية، عرضت فيه أحوال التعليم ببعض دول آسيا، لكنه ليس عن الصين التي أنتجت برنامجًا للذكاء الاصطناعي مجانيًا يضاهي ما أنتجته أمريكا سابقًا، كما لم يتحدث عن المعجزة التعليمية الكورية أو الماليزية، وليس أيضًا عن الأب الروحي لنهضة دول آسيا؛ وهي اليابان والمعروفة بجودة تعليمها وجديته وانضباط مدارسها، وكانت التقارير والرسائل الصحفية عن هذا التعليم، وخاصةً من الزميل محمد إبراهيم الدسوقي، هي الملاذ والمرجع عن اليابان، لاسيما عندما بدأت مصر في اقتباس التجربة قبل سنوات بافتتاح عدد من المدارس اليابانية التي أشاد بها وطلبها الرئيس السيسي.
ولكن التقرير التعليمي كان عن دولة فيتنام، والتي تقع في الجنوب بشرق آسيا، واشتهرت بالمقاومة الباسلة ضد احتلال أرضها في القرن الأخير سواء من فرنسا ثم الحرب ضد الولايات المتحدة بعد ذلك، حتى تم الانتصار مع بداية السبعينيات من القرن الماضي، وكيف لهذه الدولة الفقيرة والمنهكة على كل الأصعدة وقتها، أن تخرج من أغلال الفقر والانقسام الذي أعقب الحرب، وأن يتفوق طلابها مؤخرًا على كندا وبريطانيا في المسابقات الدولية التعليمية وهو ما أشار إليه التقرير المتلفز.
فيتنام ذات 100 مليون نسمة تقريبًا ويعيش الأغلبية منهم في الريف والنسبة كذلك لصالح الشباب تحت سن 30 سنة أي مجتمع مستقبلي يبحث عن فرص التعليم والعمل.
كان التعليم هو صاحب هذا التحول الاقتصادي والعلمي لتصبح فيتنام الآن رقمًا مهمًا ومتقدمًا على الصعيد الدولي، ففي المؤشر العالمي للابتكار احتلت رقم 44 من 133 دولة، وارتفع معدل الدخل القومي ليصل إلى 1.450 بليون دولار في السنوات السابقة وينخفض التضخم إلى نسبة قليلة بعد أن وصل في سنوات سابقة إلى أكثر من 60%.
النهضة التعليمية بدأت مع الاستقلال ومع الزعيم التاريخي لها هوشي منه، والذي بدأ بالاستثمار في التعليم بمقولته "نحن لا ننظر فقط للعشر سنوات القادمة بزراعة الأشجار، ولكن أيضًا ننظر لبعد قرن من الآن بزرع التعليم"، ولكن النجاح والتحول الحقيقي بدأ منذ منتصف الثمانينيات، فتخلصت من العزلة، وتم وضع سياسة نهوض تعليمية لزيادة الموارد بمشاركة المحليات عبر تخصيص نسبة 20% من موارد المناطق الجغرافية للاستثمار في التعليم، والذي سيصبح مجانيًا بالكامل في العام الدراسي القادم 2025/2026.
وتشير المعلومات أيضًا إلى أن السلم التعليمي قبل الجامعي يقع في 12 سنة تقسم إلى خمس سنوات للابتدائي وأربعة للإعدادي، وثلاث سنوات بالمرحلة الثانوية ويحضر الطلاب بالمدرسة 8 ساعات يوميًا لخمسة أيام بالأسبوع، ويوم السبت 4 ساعات فقط، والكثافة بالفصول مرتفعة وهي ما بين 40-45 طالبًا، من خلال هذه القواعد والالتزام الصارم بها حصل طلاب فيتنام على أعلى المعدلات في إجادة القراءة والكتابة لتلاميذ التعليم الأساسي بالامتحانات الدولية، وسبقت من خلاله دولًا مرتفعة الإنفاق والتطور بأوروبا وكندا، وهو ما أوضحه التقرير المتلفز.
اللافت أيضًا هو قول الطلاب إنهم يدرسون كل المواد الدراسية بالمدرسة وليس عددًا قليلًا ومحددًا، حتى يستطيع الطالب تحديد ميوله وتخصصه الدراسي الذي سيكمل به فيما بعد.
ركزت فيتنام في خطة التطوير على المناهج الدراسية كلها ومراجعتها كل بضع سنوات، فبجانب اللغة القومية الأساسية واللغات الأجنبية والعلوم الإنسانية التي تدرس للجميع والتي تفوقوا بها أيضًا، قامت بالتركيز أيضًا على دراسة الرياضيات والفيزياء والعلوم والإنفاق عليهم ومنح الحوافز للدارسين، واستطاع أحد علمائها بالخارج "نجو تشاو باو" الفوز بجائزة فيلدز في الرياضيات وهي تماثل جائزة نوبل وذلك عام 2010، ولتصبح فيتنام من أعلى المعدلات تفوقًا في آسيا وتتفوق بالنشر العلمي عن المتوسط العام على دول كثيرة بآسيا، هذه الخطط التعليمية واستمرارها أدت إلى زيادة أعداد الطلاب الدوليين بجامعات فيتنام والتي وصل عددها إلى 240 جامعة، بل وضعت هدفًا مستقبليًا لزيادة أعداد جامعاتها في أفضل تصنيف إلى 200 جامعة، وكذلك زيادة النشر الدولي بنسبة 10%، مع زيادة الاستثمار في البحث العلمي ليصل إلى 2%.
مثال فيتنام وتفوقها على دول متقدمة في مؤشرات الامتحانات الدولية بالتعليم الأساسي بالقراءة والكتابة وغيرها، رغم الكثافة الطلابية المرتفعة مقارنة بالمتوسط العالمي أو الأوروبي يستدعي الدراسة والتوقف خاصة أنه يحمل إمكانية الحلم باستكمال النهوض التعليمي والتفوق الطلابي به، وزيادة الدخل القومي من التعليم، ومن إنتاجه البحثي والعلمي بل والاقتصادي وهو ما توضحه ارتفاع أرقام التصدير ومضاعفته والتركيز في منتجات محددة مثل فيتنام.
إن مصر تتشابه مع فيتنام في نواحٍ عدة منها عدد السكان المتقارب فوق 100 مليون نسمة، وأن الأغلبية السكانية لصالح الشباب، وأن نسبة سكان الريف أعلى من الحضر، والمساواة في حق التعليم بين الإناث والذكور، وأننا من البلاد التي عانت كثيرًا من هيمنة الاحتلال وأنواعه، والحروب حتى أوائل السبعينيات، وإن كلانا يعتبر من الدول النامية ولدينا النشيد القومي مقدسًا مثلهم في الصباح، وكذلك مركزية القرار وارتفاع الكثافات في الفصول، بل إننا في بعض الأرقام نتفوق عليهم دوليًا، ولكن فيتنام أصبحت في مركز متقدم في مؤشر الابتكار وتتقدم به بمعدلات متسارعة، وذلك عبر الاهتمام بالبذرة وهي التعليم الأساسي، ومن خلال صرامة المناهج التعليمية الموحدة للجميع، رغم وجود القطاع الخاص والذي لعب دورًا مهمًا في التعليم بها، ولكننا نحتاج أكثر إلى التركيز على البذرة بالتعليم قبل الجامعي، مشاركة المواطن والمجتمع ليس في الاقتناع بأهمية التعليم وهو قاعدة متوافرة في البناء الاجتماعي والأسر المصرية بدليل ما يصرف ماديًا وبالمليارات على الدروس الخصوصية من الأسر المصرية والمجتمع فهو دليل على قيمة التعلم والإصرار على الحصول عليه من خلال الدروس الخصوصية، وإنما بالمشاركة المجتمعية في اتخاذ القرار والأفكار وجذبهم لضخ التمويل نفسه في المدارس ورقابة ذلك الصرف، وبهذا سيشعر المواطن بجدوى كبيرة من النهوض التعليمي والعائد المجتمعي والشخصي منه.