في عالم يركض نحو المستقبل بسرعة الضوء، يبرز كتاب "استشراف المستقبل بالخيال العلمي" للدكتورة رشا يحيى، الأستاذ المساعد بأكاديمية الفنون، كوثيقة فكرية تستنطق الغد، وتحفر في أعماق الزمن القادم بأسلوب علمي رشيق، ولغة أدبية آسرة، إنه ليس مجرد دراسة أكاديمية جامدة، بل عمل إبداعي يمزج بين التحليل العميق والرؤية الفنية، ليحمل القارئ على أجنحة الخيال، ويجول به في فضاءات المستقبل الممكن والمحتمل والمأمول.
موضوعات مقترحة
منذ القدم، كان الخيال العلمي نافذة الإنسان نحو الغد، فالأفكار التي خطها الأدباء وحلق بها المبدعون في عوالم السينما والدراما، لم تكن مجرد رؤى حالمة، بل كانت نبوءات تحققت، وواقعًا صار ملموسًا، من المركبات الفضائية إلى الذكاء الاصطناعي، من الهندسة الوراثية إلى الروبوتات المتطورة، كانت شرارة الإبداع تسبق عقارب الزمن، تصنع صورة لما سيكون، في انتظار أن تتحول الفكرة إلى اكتشاف، والرؤية إلى تطبيق.
ينقسم الكتاب إلى محاور مترابطة، تبدأ بمناقشة مفهوم الخيال العلمي وأثره على تطور العلوم، حيث تكشف الكاتبة كيف كانت الأحلام المستحيلة هي بذور الاختراعات العظيمة، وكيف استلهم العلماء من الأدب والسينما تصوراتهم عن الفضاء، والروبوتات، والذكاء الاصطناعي.
أما جذور الخيال العلمي في النصوص القديمة والأساطير، فهي دليل على أن الإنسان منذ الأزل كان يتوق إلى معرفة المجهول، ويستخدم قصصه وأحلامه في بناء تصوّرات عن عوالم جديدة، بعضها أصبح اليوم حقيقة.
وفي فصل الخيال العلمي في الفنون البصرية والأدب والسينما، تأخذنا الكاتبة في جولة بين روائع الأدب العالمي والسينما، من جول فيرن وجورج أورويل، إلى أفلام مثل 2001: A Space Odyssey وBlade Runner، لتكشف كيف كانت هذه الأعمال الفنية بوصلة للعلماء، ومرآة تعكس المخاوف والآمال حول التكنولوجيا والمستقبل.
توضح الكاتبه أن الخيال العلمي ليس مجرد وسيلة للهروب من الواقع أو ترفًا فكريًا للأدباء والمبدعين، بل هو أداة حقيقية لاستشراف المصير، وتوقع التحولات الكبرى التي قد تصيب البشرية، لقد استطاع كبار المفكرين، من ألدوس هكسلي في عالم جديد شجاع إلى إسحاق عظيموف في الروبوتات، أن يطرحوا رؤى مستقبلية تحققت اليوم، سواء في الهندسة الوراثية، أو سيطرة الذكاء الاصطناعي على جوانب متعددة من الحياة، وتأخذنا الدكتورة رشا يحيى عبر صفحات كتابها إلى استعراض هذه النماذج الفكرية والفنية، ليس فقط للإعجاب بها، بل لاستنباط الدروس التي يمكن أن نطبقها اليوم، ونحن نخطو نحو عصر تكنولوجي غير مسبوق.
أحد أبرز المحاور التي يناقشها الكتاب هو مستقبل الذكاء الاصطناعي، وما يطرحه من معضلات أخلاقية وعلمية، هل سيظل الذكاء الاصطناعي أداة بيد الإنسان، أم سيتحوّل إلى كيان مستقل يهدد البشرية كما تنبأت بذلك أفلام مثل The Matrix وEx Machina؟ كيف يمكن للدول النامية، ومن بينها مصر، أن تستثمر هذه التكنولوجيا لصالح مشاريعها التنموية بدلًا من أن تصبح مستهلكًا سلبيًا لها؟ هذه الأسئلة الجوهرية يعالجها الكتاب بذكاء وعمق، محذرًا من مخاطر التبعية التكنولوجية، وداعيًا إلى الاستثمار في البحث العلمي والابتكار المحلي، لضمان أن يكون المستقبل في متناول أيدينا، وليس مرهونًا بقرارات الشركات الكبرى والمختبرات العالمية
الكتاب ليس مجرد تحليل أكاديمي جامد، بل صرخة إيقاظ للعقول، ودعوة لإعادة النظر في علاقتنا بالعلم والخيال، واعتبارهما جناحين أساسيين لأي نهضة حقيقية، فمن خلال سرد ثري بالتاريخ، وعرض بصري للسينما والأدب، ومنهجية تحليلية متينة، ينجح الكتاب في كسر الحاجز بين القارئ العادي والمتخصص، ويدعوه لأن يكون جزءًا من هذا الحراك الفكري العالمي، إنها دعوة لاستثمار الخيال، ليس بوصفه ترفًا أدبيًا، بل باعتباره الخطوة الأولى لصياغة المستقبل الذي نريد.
في هذا الكتاب، لا تكتفي الدكتورة رشا يحيى بتقديم بحث علمي متكامل، بل تغزل نصًا أدبيًا رشيقًا يفيض بالسلاسة والجمال، حيث تمتزج المعلومات الدقيقة مع الأسلوب الحيّ، فتشعر أن صفحات الكتاب ليست مجرد دراسات جامدة، بل رحلة فكرية ممتعة تمتد بين الماضي والمستقبل. تستخدم الكاتبة لغة تجمع بين الدقة الأكاديمية والبعد الإبداعي، فتنساب أفكارها بسهولة، مما يجعل القارئ يشعر وكأنه يستكشف عوالم جديدة دون عناء. إن قدرتها الفريدة على رصد التحولات العلمية بلغة سلسة ومشوقة تجعل من هذا الكتاب إضافة حقيقية إلى المكتبة العربية، وتؤكد أهمية تناول القضايا المستقبلية بأسلوب يجمع بين الرؤية النقدية والطرح الأدبي الرفيع.
يتماهى هذا العمل الفكري مع رؤية الدولة المصرية في مشروع التنوير وبناء الوعي الثقافي، حيث لا يمكن لأي مجتمع أن يخطو نحو التقدم دون أن يمتلك القدرة على التخيّل الخلاق، وإعادة تشكيل المستقبل وفق أسس علمية راسخة. كما أن مصر، التي كانت عبر التاريخ رائدة في المزج بين العلم والفن، قادرة اليوم على استثمار أدوات الخيال العلمي في تطوير استراتيجياتها التكنولوجية، وتحقيق نهضتها في مجالات الذكاء الاصطناعي، واستكشاف الفضاء، والتحول الرقمي.
رشا يحيى ليست مجرد باحثة أكاديمية، بل هي كاتبة وإعلامية وفنانة متعددة المواهب، تحمل خلفية ثقافية وفنية غنية، جمعت في مسيرتها بين العلوم الإنسانية والفنون، مما منحها رؤية شمولية متميزة، انعكست بوضوح في كتاباتها التي تسعى دائمًا إلى تقديم رؤى جديدة حول التقدم العلمي وأثره على المجتمعات، يعد هذا الكتاب تتويجًا لرحلة بحثية وفكرية طويلة، وهو بمثابة دعوة للتفكير العميق في المستقبل، والاستعداد له بعقل منفتح وإبداع متجدد.