أبدأ مقالتي بمقولة مهمة، أوجهها لأحبتنا جميعًا، أقول: "لا تكونوا رمضانيين... ولكن كونوا ربانيين". لا أحد ينكر من أهل القبلة قيمة وأهمية شهر رمضان، سواء على المستوى الفردي أو المستوى الجمعي.
ليس هذا فحسب، بل وتتجاوز أهميته عالمنا المعيش الذي نحياه إلى العالم المفارق، عالم الإلهيات والروحانيات، وعالم الروح الأمين وعالم الملائكة، وشاهدي على ذلك، فإنه مع دخول أول ليلة من ليالي رمضان تُغلَق أبواب النيران وتُفتَح أبواب الجنان، وتزدان السماوات ابتهاجًا واحتفاءً قبل الأرض بقدوم هذا الشهر الفضيل.
نعم، فإنه شهر يأتي كل عام وينتظره أهل الفضل بفارغ الصبر، فالقلوب دومًا تهفو إلى لقاء الأحبة، وكما قال شيخ الإشراق السهروردي: "أبدًا تحن إليكم الأرواح، ووصالكم ريحانها والراح". والأرواح والقلوب والأنفس الطيبة الراقية تحترق شوقًا في انتظار مقدمه، لما فيه من الخيرات والبركات والمسرات والبشارات، ولما فيه من صلة الأرحام، ولما فيه من التواد والتراحم والتعاطف ولين الجانب للمسلم وغير المسلم، فهو شهر الألفة والمكرمة.
ليس هذا فحسب، بل ولما فيه من تطهير النفس وتزكيتها والارتقاء بها من حال إلى حالات مفارقة، من حال الانغماس في الشهوات والملذات إلى حال الرقي والسمو والمثل العليا، فالصائم في صومه يتشبه بالملائكة الذين لا يأكلون ولا يشربون ولا يمارسون صنوف الشهوات المختلفة، ليس لهم هم إلا التسبيح والتكبير والحمد لرب العالمين.
وهكذا حال الصائم في نهار رمضان، لا يلهو ولا يتشاجر ولا يتخاصم ولا يقطع رحمه ولا يهمل في عمله، نفسه راضية مرضية حتى وإن حاول أحد استفزازه أو تعكير صفوه، سيتذكر على الفور أنه صائم، مصداقًا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "الصوم جنة".
وهذا حال الإنسان الراقي الرباني الذي يقضي ليله متعبدًا ناسكًا في محرابه قدر استطاعته، دونما إفراط أو تفريط، الذي حاله لا يتغير سواء في رمضان أو غير رمضان، لكن رمضان يكون بمثابة عيد له يزيد فيه الطاعات والعبادات.
أما الرمضانيون هداهم الله، أولئك الذين يقبلون على المساجد وعلى فعل الخيرات وممارسة كل الخصال الحسنة في رمضان فقط، وكأن الله تعالى هو رب رمضان فقط، فحاشا وكلا، فالله تعالى رب رمضان ورب كل الشهور والأيام والليالي والسنون ورب كل شيء ومليكه.
فما إن ينقضي الشهر الفضيل، ولا أكون مبالغًا إذا ما قلت ما إن تنقضي العشر الأوائل منه، إلا وينصرف هؤلاء عن صلاة التراويح، وتبدأ الهمم تفتر، وكما يقال: "تعود ريما إلى عادتها القديمة".
فهل هذا يعقل أن نعبد الله على حرف أو أن نعبد الله تعالى على سطر ونترك سطرًا؟ هل ونحن أمة مكرمة مفضلة على سائر الأمم يليق بنا أن نفعل ذلك؟
"هل جزاء الإحسان إلا الإحسان"، هل نسيء إلى من يحسن إلينا، والله لا نسيء إليه تعالى، بل نسيء إلى أنفسنا، فمن يفعل ذلك فهو الخاسر خسرانًا مبينًا.
إن العابد المتحقق المتيقن بعبوديته لله تعالى، فهو الذي يخلص في عبوديته لله تعالى حبًا في سبوحات وجهه الذي أشرقت له وبه الظلمات، يعبد الله حبًا في ذات الله تعالى، لا يعبده من أجل منفعة أو قضاء مصلحة، وإنما يعبد الله حبًا في الله تعالى، وإذا ما أخلص حتمًا سينال الجزاء الأوفى في الدنيا والآخرة.
فليفتش كل واحد منا بداخله ويسأل نفسه هذا السؤال، هل نحن ربانيون أم رمضانيون؟!
أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان