الله أكبر.. وهل بعد نداء السماء رجعٌ أو تردد؟ إن وعد الله حق، لا يُخلف ولا يتأخر، فمن نصر الله في قلبه وسيفه وكلمته، نصره الله بما لا يخطر على بال. هناك، حيث النور يبدد العتمة، وحيث الأرواح تصطف في محراب التضحية، ارتفع النداء مدويًا كأنما تهتز له أركان الكون: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر!
وفي لحظة فاصلة بين الشك واليقين، بين الظلم والعدل، جاء النصر كريح صرصر عاتية، تحمل معها حكايات الخالدين، أولئك الذين صدقوا الله فصدقهم، ثبتوا فما تزحزحت أقدامهم، وجاهدوا فكان العلو حليفهم. إن جند الله لا يُقهرون، لأنهم لم يأتوا بعدد ولا عدة، بل جاؤوا بيقين يملأ القلب، وعقيدة تسري في الدم، ونداء يوقظ الأرض من سباتها.
في ذلك المشهد المهيب، حين ارتجفت الأرض تحت وقع الأقدام المؤمنة، حين تهاوت حصون الطغيان أمام بسالة الموقنين، كان التاريخ يكتب فصله الجديد، وكان وعد الله يُسطَّر بحروف من نور: "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم".
وهكذا كان.. وهكذا سيظل.
يا لتلك اللحظة التي انبثق فيها الفجر على صحراء سيناء، حين ارتفع النداء الذي ظل محفورًا في الوجدان: "الله أكبر". لم يكن مجرد هتاف يعلو في السماء، بل كان صوت الأرض حين تستعيد أبناءها، كان رجع التاريخ وهو يعيد كتابة نفسه بدماء الأبطال، كان الإيمان حين يشتد عوده، فيكسر قيود الهزيمة، وينهض من تحت أنقاض الكبرياء الجريح.
ثلاثة وخمسون عامًا هجريًا مرت، وما زالت أصداء العاشر من رمضان، السادس من أكتوبر، تتردد في ضمير الأمة، كنشيد لا يخفت، وكذكرى تنبض بالحياة كلما ظن الواهمون أن النسيان قد يطويها. هناك، حيث امتزجت رمال سيناء بدماء الشهداء، وحيث تساقطت أوهام العدو كما تتهاوى أوراق الخريف، كُتبت واحدة من أعظم ملاحم العزة والإرادة، فكان الجندي المصري، ابن هذه الأرض الطيبة، فارسًا لا يهاب، جنديًا لا يُكسر، قلبًا نابضًا بالعقيدة، وسيفًا مسلولًا على البغي والعدوان.
ظن العدو أن مصر قد استكانت، وأن أبناءها قد رضوا بواقع مفروض، لكنه لم يدرك أن هذا الوطن ليس مجرد قطعة أرض، بل هو تاريخ لا يُنسى، وكبرياء لا يُهزم، وروح تأبى أن تُكسر. وقف الجيش المصري، ليس بجيش مستأجر، ولا بمرتزقة يقاتلون من أجل المال، بل برجال خرجوا من قلب الأرض، حملوا هم الأمة فوق أكتافهم، وأقسموا أن يعودوا إما بالنصر أو بالشهادة.
وسقطت الأسطورة، تلك التي روج لها العدو لسنوات، تهشمت تحت وقع أقدام المقاتلين الذين عبروا القناة، وأعلنوا أن المستحيل كلمة لا وجود لها في قاموس مصر.
كانت لحظة العبور أكثر من مجرد انتصار عسكري، كانت إعلانًا بأن هذه الأمة لا تموت، وأن جيشها لم يكن يومًا إلا سيفها ودرعها، حصنها الذي تحتمي به، وصوتها الذي يعلو حين يحاول الغاصبون العبث بمقدساتها.
وسيظل العاشر من رمضان درسًا خالدًا، يلقنه التاريخ لكل من تسول له نفسه الاقتراب من أرض مصر، فهنا، حيث تسطع الشمس على ضفاف النيل، وحيث تنبض القلوب بحب الوطن، لا مكان للضعف، ولا وجود للهزيمة، لأن هذه الأرض، منذ فجر التاريخ، لم تعرف إلا العزة.. ولم يسر فوقها إلا الأحرار.
ولعلنا نقف طويلًا أمام هذا النصر، لا لنروي حكاية عابرة، بل لنستعيد دهشة العالم وهو يراقب كيف تحولت الإرادة إلى معجزة، وكيف صاغ المصريون درسًا خالدًا في الإيمان والتخطيط والعزيمة. لم يكن العاشر من رمضان مجرد يوم في التقويم، بل كان لحظة فارقة اختزلت كل معاني التحدي، حيث التقت الروح المؤمنة بالعقل المدبر، وحيث تسلحت القلوب باليقين قبل أن تتسلح الأيدي بالبندقية.
لقد ظن العدو أن الصيام سيرهق المصريين، وأن العطش سيبطئ خطاهم، وأن الجوع سيثقل أيديهم، لكنه لم يدرك أن الصائم الذي يبيت على الجوع ولكنه يوقن بأن الله معه، هو جندي لا يُقهر. وكان التوقيت جزءًا من المفاجأة، حيث لم يتوقع أحد أن تأتي الضربة القاصمة في وقت تظنه النفوس وقت ضعف، ولكنه في عرف المؤمنين وقت قوة، حيث تعلو الروح على الجسد، وحيث يصفو القلب فلا يرى أمامه إلا الحق الذي لا بد أن ينتصر له.
وحين انطلقت "الله أكبر"، لم تكن مجرد كلمات خرجت من الحناجر، بل كانت زلزالًا هز أوهام العدو، وسلاحًا اخترق معسكراتهم قبل أن تخترقها المدافع، وسيفًا حطم أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر". لم يحتج المصريون إلى اتفاق مسبق ليرفعوا النداء ذاته في صوت واحد، فقد كانت "الله أكبر" تجري في عروقهم، وكانت اليقين الذي يتنفسونه، وكانت المد الذي كسر خط بارليف الذي قيل عنه إنه "منيع"، فلا منيع أمام الإيمان، ولا حصن يصمد أمام رجال باعوا الدنيا واشتروا النصر أو الشهادة.
لقد سُجلت "الله أكبر" في شهادات العدو، لا كصدى أصوات ترددت في الأفق، بل كقوة ساحقة، أربكتهم قبل أن تلمسهم أي رصاصة، وألقت في قلوبهم الرعب قبل أن تشتبك معهم أي كتيبة. ولا يزال وقعها حتى اليوم، يتردد في آذان من ظنوا أن هذه الأرض قد تُغتصب يومًا دون أن تهتز لها السماء، ولا يزال صداها يلقن العالم درسًا في معنى الإرادة حين تشتد، وفي معنى الإيمان حين يكون السلاح الأقوى في معركة الحق والباطل.
العاشر من رمضان.. ملحمة تتجدد في ذاكرة الوطن، ويوم الشهيد الذي لا يمضي، بل يبقى خالدًا ما بقيت مصر.. فإذا كان اليوم يوافق ذكرى النصر، فإن كل يوم هو ذكرى لأولئك الأبطال الذين جعلوا من أرواحهم درعًا للوطن، وسطروا بدمائهم أبهى صفحات العزة والشرف. لم يكن انتصار العاشر من رمضان مجرد لحظة في كتاب التاريخ، بل هو روح نابضة تسري في وجدان كل مصري، درس لا يشيخ، وملحمة تظل تلهم الأجيال جيلًا بعد جيل.
ومع كل ذكرى، يتجدد العهد، وتتعالى الأصوات بأن مصر لم تكن يومًا لقمة سائغة، ولن تكون. فالمؤامرات التي تحاك ضد هذا الوطن لم تتوقف، والأطماع التي تتربص به لم تهدأ، لكن مصر القوية تعرف كيف تحمي حقها، وكيف تحافظ على سيادتها، وكيف تجعل السلام خيار الأقوياء، لا استسلام الضعفاء.
الله أكبر ذلك النداء الذي زلزل القلاع، لم يكن مجرد صوت في ميدان المعركة، بل هو عهد يتجدد بأن القوة هي الضامن الحقيقي للسلام، وأن الجيش المصري سيظل كما كان، سيفًا يحمي ودرعًا يصون، يدًا تشيد ويدًا تقاتل، إرادة لا تُهزم وكبرياء لا يُكسر.
وسيبقى العاشر من رمضان يومًا لا يُنسى، يومًا امتزجت فيه الأرض بدماء الشهداء، وعادت لمصر عزتها وكرامتها وكبرياؤها، ليكون درسًا لكل من يظن أن هذا الوطن قد ينحني، فمصر لا تعرف الانحناء إلا لله، ولا ترفع رايتها إلا بالنصر، ولا تخلد في ذاكرتها إلا أسماء الأبطال الذين افتدوها بأرواحهم.
"الله أكبر".. نداء النصر، ونداء الحق، ونداء الوطن الذي لن يُهزم أبدًا.