بات واضحًا أن دونالد ترامب استقر على "لعبته الإستراتيجية الكبرى"، وهي محاولة إغواء فلاديمير بوتين ضد الصين، وأول دفعة تتعلق بأوكرانيا، بل قبول تواجد روسيا في الشرق الأوسط، خاصة في سوريا وليبيا، والأهم وساطة بوتين في الملف النووي الإيراني.
والشواهد الآن تشير لعدم ممانعة روسية للعرض الذي يعيدها "قوة عظمى" وليس تابعًا هامشيًا للصين مثلما قال مستشار الأمن القومي الأمريكي منذ أيام.
وهذا الوفاق الجديد سوف يلبي طموحات بوتين ويهدئ مخاوف روسيا برفض ضم أوكرانيا للناتو، وبتسوية جيدة تتحرر روسيا من بيع نفطها وغازها بسعر رخيص. وقبول واشنطن وإسرائيل لدور روسي أكبر في الشرق الأوسط سوف يتم به احتواء إيران وطموحات تركيا التوسعية، وهذا كله بهدف التصدي للصين.
ومن المدهش أن الصحافة الروسية تتحدث بقوة منذ فترة عن الحاجة إلى "يالطا جديدة"، وذلك بمناسبة مرور 80 عامًا على يالطا الأولى التي قسمت العالم بين واشنطن وموسكو.
ويذهب الكتاب الروس بفخر إلى أن الولايات المتحدة كانت تخسر دائمًا في الصراعات لولا روسيا، وأنه في جميع نزاعاتهم العسكرية المهمة مع أيٍّ كان، لم ينتصر الأمريكيون إلا بالتحالف مع الإمبراطورية الروسية أو الاتحاد السوفييتي، وعلى العكس من ذلك، ففي المواجهة العسكرية بمشاركة القوات الروسية، كانوا يخسرون دائمًا.
وحول حاجة الولايات المتحدة إلى روسيا، كتب إميل بويف، في "أوراسيا ديلي" أن ترامب جدد مرة أخرى معرفته بتاريخ العلاقات مع روسيا، وقام بتقويم الاحتمالات الوشيكة، وأدرك بمرارة (أو بفرح) أنهم بحاجة إلى صنع السلام، وإلى التحالف مع روسيا، وخاصة مع تقدم بكين المذهل، حيث يجري الآن استكمال بناء مصنع لإنتاج الروبوتات، وهذه بداية ثورة صناعية جديدة في الصين.
ومن أجل اللحاق بالصين في هذا السباق، تحتاج روسيا والولايات المتحدة إلى اقتصاد يعمل بشكل جيد، وثلاثين عامًا من الحياة السلمية بلا حروب. وللقيام بذلك، يتعين على الأمريكيين تجميد الصراعات في الشرق الأوسط.
ويقول الكاتب إن الأمريكيين يرجوننا التحدث مع إيران، ويحتاجون إلينا في القطب الشمالي وطريق بحر الشمال، ويطلبون منا العناصر الأرضية النادرة، والألمنيوم، ونصف عناصر الجدول الدوري، ولدينا كل ذلك.
ويكشف إميل عن أن الأمريكيين يقترحون علينا زمنًا بلا حروب. ولكن بأي شروط؟! ويضيف بقوله "من حيث المبدأ، لا نحتاج إلى الكثير من الأمريكيين: نحن بحاجة إلى أن يتركونا وشأننا ويتخلوا عن ممارستهم في نشر الفوضى على حدودنا. لدينا كل الأشياء الأخرى، وسنقوم بصنع كل شيء آخر بأنفسنا -الرقائق والروبوتات- وسنطير إلى المريخ".
ويؤكد أن روسيا والولايات المتحدة تفكران الآن في المقام الأول في توفير القوة (وليس المال!) للأمن، وهذه منصة مشتركة بالنسبة لنا، وسوف يتفاوض ترامب وبوتين عليها، وسوف يتوصلان إلى اتفاق، لأن كليهما يدركان جيدًا دور القوة العسكرية في ضمان السلام.
وفي المقابل يرى إلبريدج كولبي وكيل وزارة الدفاع لشئون السياسة أنه على الرغم من التحديات التي تفرضها روسيا المتجددة، فإن التحدي الرئيسي الذي تواجهه أمريكا هو الصين، حيث قال: "نحن بحاجة إلى أن نكون واضحين تمامًا: مما لا شك فيه أن التهديد الخارجي الأكبر لأمريكا هو الصين ــ بلا أدنى شك".
وينظر إلى إلبريدج بوصفه "العقل المدبر لتوجيه سياسات البنتاغون وفق إستراتيجية بعيدة المدى"، وكمدافع عن سياسات ترامب الخارجية والدفاعية المتعلقة بفكرة "أمريكا أولًا".
ويتابع كولبي الخبير في سياسة الأمن القومي، أن هذا الواقع يعني بالضرورة أن أمريكا يجب أن تعطي الأولوية والاهتمام للاستثمار والموارد في الصين، بما في ذلك خفض الدعم لأوكرانيا. وقال كولبي إن "من مصلحة أمريكا تجنب الهزيمة الأوكرانية"، لكن يجب علينا متابعة هذه المصلحة بطريقة تتفق مع أعلى أولوياتنا المتمثلة في استعادة دفاع هائل على امتداد سلسلة الجزر الأولى في آسيا.
وفي استعراضها لأبرز مواقف إلبريدج، أكدت مجلة فورميكي الإيطالية أنها حاورت كوبلي، وأن تعيينه يعكس رغبة ترامب في التنافس مع الصين وإعادة صياغة العلاقات مع الحلفاء وفي مقدمتهم الأوروبيون. وقالت إن دور إلبريدج "سيتمثل في رسم سياسات متوافقة مع الرؤية الترامبية وأيضًا مع المسار الذي تتبعه الولايات المتحدة بالتفكير في مستقبلها على المدى البعيد"، وذلك في سياق الاهتمام الإستراتيجي المتنامي بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ. وقد لعب دورًا رئيسًا في تطوير إستراتيجية الدفاع الوطني الأمريكية 2018، والتي ركزت بشكل خاص على التحديات التي يفرضها صعود الصين.
ويرى إلبريدج كولبي مؤلف كتاب "إستراتيجية الإنكار: الدفاع الأمريكي في عصر صراع القوى العظمى"، أنه يجب على الولايات المتحدة أن تركز جهودها على احتواء الصين، لا سيما أنها تعد التهديد الجيوسياسي الرئيس في العصر الحالي. ويصر على أن الإستراتيجية الرابحة تكمن في منع بكين من إمكانية تحقيق نجاحات عسكرية كبيرة، خاصة في تايوان.
ودعا في مقال نشرته مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية في عام 2022 واشنطن إلى الاستعداد لحرب على تايوان قد تشنها بكين تهدف لضم الجزيرة، ويرى أن "الاستعداد هو أفضل وسيلة لتجنب الصراع مع الصين". وخلال مقابلة مع مجلة "نيو ستيتسمان" البريطانية في يوليو الماضي، أوضح أن هدفه لا يكمن في استفزاز الصين بل الإشارة بوضوح إلى أن الولايات المتحدة مستعدة للدفاع عن الوضع الراهن.
وأردفت المجلة أن هذا "التوازن بين الحزم والاعتدال ينعكس أيضًا في حواره مع دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، التي يعدها شريكين أساسيين لضمان الأمن الإقليمي". وتنقل عن العديد من المفكرين الأمريكيين توافقهم في الرأي بأن "الاستعداد لصراع محتمل في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، من خلال موقف دفاعي قوي وذي مصداقية، يعد أفضل وسيلة لردع الصين عن التصرفات المتهورة والحفاظ على السلام".
كما أشارت المجلة إلى وجود عنصر آخر مميز في تفكير إلبريدج كولبي وهو انتقاده لميل الولايات المتحدة إلى الرغبة في أن تكون "شرطي العالم". وكان قد أكد في مقابلة مع صحيفة "لوموند" الفرنسية في يوليو الماضي، أن واشنطن لم تعد قادرة على الحضور في كل مكان خاصة عندما يتعلق الأمر بالملفات التي يمكن للحلفاء إدارتها بشكل مستقل.
ويبقى هنا عدة أمور مهمة أبرزها:
أولًا أن على "الأوروبيين التعامل مع الملف الأوكراني، في حين تركز الولايات المتحدة على آسيا، وهذا لا يعني فك الارتباط بل إعادة توزيع الأولويات.
ثانيًا سياسة ترامب تستهدف تركيزًا أمريكيًا أقل على أوروبا والشرق الأوسط، والمزيد من الموارد لمواجهة الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
ثالثًا هذا التوجه يشكل تحديًا لأوروبا التي تعتزم ترسيخ نفسها كلاعب جيوسياسي عالمي، بحثًا عن الاستقلال الإستراتيجي الذي يوفر فيه فك الارتباط الجزئي للولايات المتحدة فرصًا.
رابعًا أن إدارة ترامب ستتميز بنهجها العملي في التعامل مع العلاقات مع الحلفاء في كل مكان. وبالنسبة لبروكسل، سيمنح ذلك فرصة لإثبات قدرتها على التحرك في اتحاد بين أعضائها.
خامسًا أنها تحذير، يرمي إلى دفع الحلفاء إلى المساهمة بشكل أكبر على المستويين الاقتصادي والعملياتي، أي زيادة حجم مساهمتهم وإنفاقهم الدفاعي خاصة في صلب الناتو.
سادسًا: أن الرؤية الإستراتيجية لدونالد ترامب تركز على أهمية تغيير الدور العالمي للولايات المتحدة، وتتبنى سياسة دفاعية جديدة تهدف إلى ضمان الهيمنة الأمريكية على المدى الطويل، مع إيلاء اهتمام خاص للتنافس مع الصين.
وأخيرًا: يجب على الشركاء والحلفاء لواشنطن وموسكو وبكين أن يراقبوا بدقة "لعبة ترامب"، وتجاوب روسيا، وردة فعل الصين. ويبدو مرة أخرى أنه ليس هناك تحالفات ولا عداوات دائمة بل "مصالح متقلبة". وأحسب أن الرهان يجب أن يبقى على القوة الذاتية والتحالف العربي لمواجهة تقلبات الزمن الجديد.