منذ اليوم الأول لعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير الماضي، عاد معه شعار "أمريكا أولاً" ليخيم على المشهد السياسي والاقتصادي الأمريكي والدولي. لكن هذه المرة، لم يعد الشعار مجرد سياسة، بل أصبح نهجًا يهدد بتشكيل عالم جديد، عالم تتراجع فيه واشنطن من موقع القيادة إلى زاوية العزلة، وربما العداء.
ففي ولايته الأولى (2017-2021) أدى النهج الحمائي لترامب إلى ردود فعل انتقامية من الدول المتضررة، مما أفضى إلى تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي وزيادة حالة عدم اليقين في الأسواق المالية والحقت الضرر بالمستهلك الأمريكي والصناعة الأمريكية بصفة عامة.
لكن مع مرور الوقت، ربما تتحول هذه السياسة من أداة لتعزيز قوة الولايات المتحدة إلى سبب لعزلتها وتراجع نفوذها العالمي.
من القيادة إلى الانطواء
لطالما كانت الولايات المتحدة القوة العظمى التي تقود الاقتصاد العالمي عقب انهيار الاتحاد السوفيتي السابق عبر العولمة والشراكات الاستراتيجية، إلا أن العودة إلى الحمائية، وإعادة التهديد بالانسحاب من الاتفاقيات الدولية، وفرض الرسوم الجمركية العقابية على الحلفاء قبل الخصوم، قد جعلت الكثيرين يتساءلون: هل أصبحت واشنطن عبئًا على النظام العالمي بدلاً من أن تكون قائدته؟
لم يكن الغرض من "أمريكا أولاً" في بادئ الأمر هو إغلاق الأبواب، لكنه تحول تدريجيًا إلى سياسة تصادمية مع الشركاء التجاريين والدبلوماسيين. فبعد موجة من القلق والاضطراب، تراجعت الولايات المتحدة عن فرض رسوم جمركية على كندا والمكسيك، بعدما اكتفى أكبر شريكين تجاريين لها باتخاذ تدابير رمزية لتعزيز أمن الحدود. ومع ذلك، فقد وقع الضرر بالفعل، وبدأ الحلفاء في البحث عن بدائل جديدة.
القوى الاقتصادية البديلة
الصين، الخصم الاقتصادي الأول، وجدت في الفراغ الأمريكي فرصة لملء الساحة بمبادرات تجارية ضخمة. حتى كندا والمكسيك، أقرب جيران الولايات المتحدة، شعرتا بأنهما لم تعودا في مأمن من تقلبات السياسة الأمريكية. أما الاتحاد الأوروبي، فقد بدأ تعزيز علاقاته التجارية مع آسيا وأمريكا اللاتينية، بينما تتقوى مجموعة "بريكس"، التي تصل حصتها من الاقتصاد العالمي إلى 26%، كبديل للنظام الاقتصادي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة.
الاقتصادات الأربعة، وهي الاتحاد الأوروبي والصين كندا والمكسيك تنتج مجتمعة نحو ثلثي واردات الولايات المتحدة من السلع.
التكلفة الحقيقية للعزلة
من الناحية الاقتصادية، يدرك الخبراء أن سياسة الحمائية قد تعطي دفعة قصيرة الأمد لبعض القطاعات، لكنها في النهاية ستؤدي إلى تباطؤ النمو، وارتفاع الأسعار، وانخفاض القدرة التنافسية للصناعات الأمريكية في الأسواق العالمية.
أما على الصعيد السياسي، فإن خطاب ترامب الصدامي قد يجعل العالم أقل استقرارًا. فقد أدى انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقيات دولية، مثل اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية، إلى تآكل الثقة في القيادة الأمريكية، مما منح روسيا والصين فرصة لتعزيز نفوذهما على الساحة الدولية. هذا الانسحاب الأمريكي من الالتزامات العالمية قد يعيد تشكيل النظام العالمي بطريقة لا تصب في مصلحة واشنطن على المدى الطويل.
اضطرابات في الأسواق
بين الفرض والإرجاء، بدأت سياسات ترامب التجارية بإحداث اضطرابات في الأسواق المالية الدولية، مما أجج المخاوف بشأن التضخم وتباطؤ الاقتصاد العالمي. فبينما تمضي الإدارة الأمريكية في سياساتها الحمائية، يبقى السؤال: هل يمكن للولايات المتحدة استعادة مكانتها القيادية عالميًا، أم أن العالم بدأ بالفعل في التحول إلى نظام متعدد الأقطاب؛ حيث لم تعد واشنطن تحتل الصدارة كما كانت؟
ورغم أن خسائر هذه السياسات لا تزال محدودة حتى الآن، فإنها قد تتفاقم في حال قررت الإدارة الأمريكية الدخول في مواجهة تجارية واسعة النطاق، مما سيؤدي إلى خسائر تطال الجميع، وعلى رأسهم الأمريكيون أنفسهم.
هل من مخرج؟
يبقى السؤال الأهم: هل ستدرك واشنطن أن القوة لا تعني العزلة، وأن النفوذ لا يُبنى بالحواجز الجمركية والسياسات الانعزالية؟ ربما يكون الحل في تحقيق توازن بين المصلحة الوطنية والشراكات الدولية، بحيث تحمي أمريكا مصالحها دون أن تدفع ثمن العزلة الباهظ.
فالعالم اليوم ليس بحاجة إلى "أمريكا أولاً" بقدر ما هو بحاجة إلى " أمريكا القائدة".. فهل تستجيب واشنطن قبل فوات الأوان؟