انتهى اليوم "الإثنين" فترة عمل زميل لنا بخروجه إلى التقاعد، ووجدته مكتئبًا شارد الذهن!!
بادرته مبتسمًا: "فيه حد يزعل وهو يترك الشغل بلا رجعة ولا وجع قلب يومي؟"
فقال: "أنت عارف إن مرتبنا بيكفي الاحتياجات الأساسية للأسرة بـ"العافية"، في ظل حالة الغلاء المتوحشة التي لا يقدر أحد على وقف توغلها، ومرتب المعاش لن يكفي حتى ثمن العلاج؟"
تركني ومضى.. ودار تفكيري في المصير الذي ينتظرني وغيري عاجلًا أم آجلًا، فهو مثل "الموت" يومه آتٍ لا محالة.
إن التعاطي مع فكرة التقاعد بات محل نقاش في الآونة الأخيرة، ففي الماضي كان الموظفون ينتظرونه لينعموا بالراحة وقضاء بقية العمر في استمتاع وتعويض ما فاتهم من طقوس عيدية كانوا محرومين منها بسبب الروتين والدوام، والمسئوليات الوظيفية التي تثقل كاهلهم في التفكير من "غلاسة" الزملاء و"تعنت" المديرين.. إلخ.
أما الآن... الصورة الوردية التي خلقتها أفلام وحكايات زمان عن مرحلة التقاعد تغيرت تمامًا، فقد كشفت الإحصائيات أن أكثر من ثلث المتقاعدين الآن يعانون صعوبة في التكيف مع جوانب الحياة، مثل انخفاض الدخل، وتراجع الدور الذي يمارسونه في المجتمع، والاستحقاقات الاجتماعية، علاوة على التغيرات الجسدية والنفسية العنيفة التي يعانون منها بسبب العوامل التي تم ذكرها سابقًا أو غيرها من الأسباب وما أكثرها!!
لقد تحول التقاعد إلى "هم" بالليل و"ذل" بالنهار لكثير ممن نعرفهم وزملائهم على مدى سنوات وكانوا ملء السمع والبصر بعطائهم ومجهوداتهم التي لا ينكرها إلا جاحد!!
إن مرحلة التقاعد التي ينبغي أن تكون الأجمل في حياة الموظف، والأكثر سلامًا واستقرارًا وتوازنًا، واستثمار عصارة المعارف والتجارب والخبرات، تتحول إلى مرحلة غلق الباب والعزلة والتعايش في فقاعة الحفاظ على مدخرات نهاية الخدمة البسيطة، أو كيفية استثمارها لتأمين مصدر دخل ثابت يساعد المعيشة في حياة "شبه كريمة"!!
ورغم ما تبذله الدولة للوفاء بحقوق أصحاب المعاشات الذين يقدر أعدادهم بنحو 9 ملايين مواطن، بين حقوق مكفولة بقوة الدستور، وأخرى نص عليها قانون التأمينات الاجتماعية، المنظم للمعاشات، إلا أنه مطلوب إصلاح المنظومة بالكامل لتوفير معيشة مستقرة فيما بقي من العمر لمن أفنوا حياتهم في خدمة الدولة والمجتمع.
بعض الدول مثل إيطاليا وهولندا رفعت سن المعاش إلى 67 عامًا، وأمريكا وإسبانيا إلى 66، واليابان إلى 65، لمواجهة أزمة قلة استحقاقات كبار السن من العاملين، وربما يكون قانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات الجديد الذي أقر رفع سن المعاش تدريجيًا ليصبح 62 عامًا في سنة 2032، ويصل إلى 65 عامًا في عام 2040، فيه حلًا لمشكلات يعاني منها الملايين ممن تركوا الخدمة.
ولأننا نتحدث عن "التقاعد" فإن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو أول من طبق في بلاد المسلمين سن التقاعد، وليست دولة ألمانيا، فقد روي عنه أنه كان يمر يومًا في سوق المدينة المنورة، ورأى شيخًا كبيرًا يسأل الناس ويتسول طالبًا المساعدة! فاقترب منه الفاروق وسأله: "من أنت يا شيخ؟" فقال الشيخ الكبير: "أنا يهودي عجوز أسأل الناس الصدقة لأفي لكم بالجزية، ولأنفق الباقي على عيالي.."
فقال عمر متألمًا: "ما أنصفناك يا شيخ.. أخذنا منك الجزية شابًا ثم ضيعناك شيخًا؟"
وأمسك الخليفة عمر بيد ذلك اليهودي وأخذه إلى بيته وأطعمه مما يأكل.. وأرسل إلى خازن بيت المال وقال له: "أفرض لهذا وأمثاله ما يغنيه ويغني عياله".
فخصص له راتبًا شهريًا يكفيه ويكفي عياله من بيت مال المسلمين، وأوقف عنه الجزية إلى الأبد.
اللهم نسألك حسن الخاتمة.