الهوى والهوية.. حين يختلط المسك بالطين

10-3-2025 | 13:09

لا يكتفي البعض بأن يكونوا أصحاب قضايا، بل يرغبون في أن يكونوا أضواءً تنشر النهار في كل الزوايا! كأن الوجود يضيق بهم إلا إذا تحولوا إلى وعاظ في المساجد، وخبراء في المعارك، وفلاسفة في المقاهي، وحكماء في الميدان! فيتحول الحكم على الأشياء إلى هوس، والفكر إلى مزاد للفضول، والقضية إلى سلعة تجمع الغبار.

السؤال الجوهري: ماذا يدفع الإنسان إلى ترك مجاله الذي أبدع فيه، ليخوض في لجة لا يعرفها؟

الوهم أحد الأسباب.. وهم أن العظمة تشبه البطاطس؛ تزداد حجمًا كلما ألقيت بها في الزيت الحار! فيظن الداعية أن خطبته في الفلك ستجعله عالمًا، ويعتقد الفنان أن تطاوله على التاريخ سيرفع قدره، ويخال المفكر أن مناقشة الجدل الديني ستثبت عبقريته! لكنَّ الحقيقة مرة: الماء إذا تعدى حده أصبح طوفانًا، والنار إذا خرجت عن موقدها أضاعت قيمتها.

ثم هناك الغرور.. غرور القلم الذي يشمخ بصاحبه فيظن أن الحروف تملك سلاحًا لكل الحروب! ألم يسمع هؤلاء بحكاية النملة التي أرادت أن تحمل جبلًا؟ لقد نسوا أن القدرة على الكلام ليست بمثابة القدرة على الفهم، وأن الوجود في الوسط الإعلامي ليس تأييدًا للعقل، بل اختبار لحكمته.

ولكن.. لو كان الهوى والغرور هما السببان الوحيدان لكان الحل سهلًا.. المشكلة الأعمق أن هناك من يستدعي هؤلاء إلى ميدان الجدل، كأن المجتمع نفسه يريد أن يرى أصحاب الرموز يسقطون! فنحن نعيش في زمن يتلذذ بالفخ، ينتظر أن تتهشم التماثيل ليقول: "أرأيتم؟ كلهم وهم!".. زمن يجعل من كل إنسان مشهور مسرحية، لكي يتفرج العالم على خطواته الخطيرة، ثم يصفق لهزيمته!

فالمجتمع - أيضًا - شريك في الجريمة.. يحول البشر إلى أساطير، ثم يندم على خلقها، فيشك فيها، وينقضها!
لكن.. أين الحكمة من هذا كله؟

الحكمة أن تعرف أن الحق لا يدافع عنه بالكلام فقط، بل بالصمت أحيانًا.. أن تفهم أن الوجود في المكان الخطأ يضعف قيمة الحق.. أن تتذكر أن الجرأة الحقيقية هي أن تقول: "لا أعرف".. أن ترفض أن تكون فراشة تلهث وراء كل لون، فتفقد ريشها، وتموت من غير أن تدرك أن الجمال كان في أنها فراشة، لا في أن تصير نسرًا!

القضايا العادلة كالنجوم.. لن تخفت إلا إذا أردنا أن نضمها إلى أكفنا بدل أن ننظر إليها من بعد.. فلنترك البحر للبحارة، والسماء للطيور، والقضايا لأهلها.. والعيشُ لمن يعرف أن البطولة الحقيقية هي أن تبقى حيًا في معركتك، لا أن تموت في كل المعارك.
العبث بـقدسية القضايا

لو أن رجلًا أمسك بيده مشكاة مضيئة، ثم ألقى بها في بحر هائج، لقلنا إنه مجنون.. لكننا نرى هذا الجنون كل يوم، بصورة أخرى، وبأيدٍ نظنها حكيمة!

هناك، في ذلك الركن من المجتمع، يقف الداعية كشجرة ظليلة، يلقي بظله على مئات العطشى للحكمة، أو الفنان كسحابة ممطرة تروي أرضًا قاحلة، أو المفكر كقنديل ينير طريقًا مظلمًا.. كل منهم حمل قضيته كحمل الأم لوليدها، رباه بدمه، وأشبعه روحًا، حتى إذا اكتملت الصورة، وبات الرأي العام يرى فيه رمزًا لمعركة عادلة، يفاجأ الجميع بأن الرجل قد ألقى بمشكاة في بحر آخر، لا يعرف مداه، ولا يفقه تياراته، ولا يملك إلا قبضة من تراب ليطفئ به الأمواج!

أليس هذا ضربًا من العبث؟

إن المأساة ليست في خوض المعركة، بل في خوضها بغير سلاح.. ذلك الداعية الذي وهب حياته لشرح عدالة إنسانية، يتحول فجأة إلى محلل سياسي يخبط في التاريخ كالأعمى، أو الفنان الذي أبدع في تجسيد آلام الوطن، ينزلق إلى سجال عقيم حول قضايا فلسفية لم يقرأ عنها سوى مقالين، أو المفكر الذي أضاء عقل الأمة، فيغرق نفسه في جدل ديني أشبه بمن ينقب عن الماء في صحراء بقطعة سكر!

والنتيجة؟

تسقط المشكاة من يده، وينطفئ النور، ويبقى البحر كما هو.. لكنَّ الخسارة مضاعفة: فقد خسر الرجل مصداقيته، وخسرت قضيته بريقها، وخسر الناس الثقة في كل من يرفع شعارًا. والأخطر أن الجمهور الذي كان ينظر إليه كمرجعية، يصاب بالدوار: هل كان يخدعنا طوال الوقت؟ أم أن عبقريته مجرد وهم؟ أم أن القضية التي ناضل من أجلها كانت غطاءً لشيء آخر؟

هنا يتحول البطل إلى لغز، والرمز إلى شبهة، والحكمة إلى فضيحة.

لماذا يفعلون ذلك؟

ربما يظنون أن الشجاعة هي القفز في كل الحفر، أو أن العظمة تكمن في التحدث عن كل شيء.. لكنَّ الحقيقة أن العبقرية الحقيقية هي معرفة حدود العبقرية! فالشجرة التي تمد جذورها عميقًا لا تطمع في أن تكون نهرًا، والسحابة التي تخصب الأرض لا تتنافس مع الشمس، والقنديل الذي يضيء الغرفة لا يحاول أن ينير المدينة.

القضية ليست في "الكم"، بل في "الكيف".. ليس في تراكم الأدوار، بل في إتقان الدور.

العظيم ليس من يملك الإجابات لكل الأسئلة، بل من يعرف أي الأسئلة يجب أن يجيب عنها.

أما أولئك الذين يصرون على اقتحام كل الجبهات، فكأنما ينسون أنهم بهذا الفعل يشبهون ذلك الطبيب الذي يجري عملية قلب مفتوح، ثم يترك المريض ينزف، لينهمك في مناقشة هندسة البنايات!

نعم، إنها خيانة.. ليس للجمهور فحسب، بل للقضية نفسها.

فهل نطلب من الفنان أن يصمت؟ أو نمنع المفكر من التفكير؟

قطعًا لا.. لكننا نطلب منهما شيئًا واحدًا: أن يمنحا للقضية حقها.

فإذا كانت القضية تستحق سنوات من الجهد، فلتستحق أيضًا شيئًا من الحماية.. حماية من تسرب الشكوك، وحماية من تشتيت الجهد، وحماية من تحويل مسار النضال إلى متاهة من الآراء العشوائية.

لنتذكر دائمًا أن القضية العادلة كالطفل الرضيع: يحتاج إلى حليب الخبرة، ودفء التركيز، وحضن الأم الذي لا يتركه ليركض خلف كل لعبة.

فهل نعذر من يهمل طفله ليلهث وراء سراب؟

[email protected]

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة