9-3-2025 | 17:18

تزامنًا مع احتفالنا بمرور 1085 عامًا هجريًّا على أول صلاة أُقيمت في الجامع الأزهر الشريف، وذلك في السابع من رمضان عام 361 هـ، الموافق 21 يونيو عام 972م، وفي ظل ظروفٍ صعبةٍ للغاية تمر بها الأمة العربية والإسلامية، حيث تداعت عليها الأمم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح، مما يتطلب من الأمة جمعاء من أقصاها لأدناها ضرورة الاصطفاف واجتماع الكلمة ولم الشمل لمواجهة تلك التداعيات والادعاءات الإسرائيلية الصهيونية المزعومة فيما يخص القضية الفلسطينية وأرضها والقدس الشريف وطهارته..

وتأكيدًا لدور الأزهر التاريخي الذي دائمًا ما كان هو صاحب الرأي الحق ولسان الصدق وحامل اللواء ورافع راية الدعوة إلى الوحدة وتقريب أفئدة المسلمين، لما له من تأثيرٍ واحترامٍ وتقديرٍ لدى جموع المسلمين، حيث يعد الأزهر الشريف أحد القوى الناعمة للدولة المصرية في العالم أجمع، وها هو الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف حفظه الله يرسل رسالةً خلال احتفال الأزهر الشريف بذكرى التأسيس ليستكمل مسيرة سابقيه من شيوخ الأزهر الأجلاء قائلاً: "منذ 1085 عامًا أُقيمت أول صلاة في الجامع الأزهر العتيق، وبدأت معها مسيرة دعوةٍ وحضارة، علمٍ وعدلٍ، وهويةٌ ووطنيةٌ، وأثَّرت وأثمَرَت، وهَوَت إليها أفئدة المسلمين من شتى بقاع العالم. واليوم في ذكرى التأسيس أبعث نداءً إلى مسلمي العالم أن يُؤثِروا اتحادهم، ويجمعوا كلمتهم، وأدعو الله كما كان الأزهر الشريف مَنهلًا وموئلًا للمسلمين عقودًا، أن يبقى دائمًا بيتًا لوحدة كلمة الأمة بجميع أطيافها ومكوناتها".

وحقًا إن هذه الكلمة مع إيجازها وتأثيرها فهي عميقة الدلالة قوية التأثير، شاهدةً على مجد الأزهر التليد وتاريخه الخالد، فلله در أستاذنا فضيلة العالم الجليل الدكتور أحمد عمر هاشم حفظه الله ونفع به حين فاخر بمصر الأزهر وبأزهر مصر فقال: "يا مصر نادى المخلصون وكَبَّروا لما تَجَلَّى في سَماكِ الأزهرُ.. من ألف عامٍ بل يزيد ومجده في قمة التاريخ لا يتقهقر.. صان التراث وصان دين محمدٍ وبهديه يَنبُوعه يتفجر.. يا مصر فيك النيل عذبٌ سائغٌ لكن أزهرنا الشريف الكوثرُ.. أهرامك الشماء شاهد عزةٍ والأزهر المعمور بدرٌ نيرُ.. يا أزهر الإسلام أنت منارةٌ في كل عالمنا سناك مُنَوِّرُ".

إن من حسن الطالع أن احتفالات الأزهر الشريف بذكرى التأسيس جاءت بعد أيام من انتهاء القمة العربية الطارئة التي عُقدت بالقاهرة لرفض تصفية القضية الفلسطينية والدفاع عن حقوق الفلسطينيين والشعوب العربية الأخرى، ليؤكد الأزهر الشريف على موقف الدولة المصرية بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي نصره الله استمرارًا لدور الأزهر الوطني، وأنه كان ولا زال وسيظل حثيثًا بجمع شمل الأمة وموحدًا لتفرقها وجامعًا لتشتتها.. وكان فيمن أجاد متحدثًا بليغًا في هذه الاحتفالية المنيرة الدكتور سلامة داود رئيس جامعة الأزهر الشريف، فكان فيما قال: "إن الأزهر الشريف بقيادة إمامه الأكبر الطيب ضرب أروع الأمثلة في الحفاظ على حقوق ومقدرات المسلمين في كافة ربوع الأرض ولم يتخل عن أي قضية عربية أو إسلامية تُثار، فهو يعمل على جمع الكلمة ونبذ الفرقة والتعصب والاجتماع على الثوابت ويتصدى جاهدًا لكل من يحاول أن يفرقها، وذلك من خلال الحوار الإسلامي الإسلامي الذي يتبناه الإمام الطيب لنبذ الفرقة والتعصب والاجتماع من خلال الأصول المشتركة التي اتفقت عليها الأمة من خلال مذاهبها".

إن الأزهر الشريف على مدار تاريخه هو كعبة العلم والحصن الحصين للأمة الإسلامية في كافة قضاياها من خلال مواقفه العديدة التاريخية الدائمة قديمًا وحديثًا وحتى الآن، وكذلك عبر علمائه الذين يدافعون عن ثغور الأمة وحماية فكرها وتراثها وثوابتها والتصدي لكل من يحاول طمس الهوية الإسلامية والعربية..

إن الأزهر يمثل وسطية الإسلام المعتدلة، فهو بروح الإسلام السمحة وبسماحة شيوخه وعمق فقههم ورجاحة عقلهم وثقلهم العلمي يقوم بنشر الفكر الوسطي المعتدل للشريعة الإسلامية الغراء داخل مصر وخارجها للعالم أجمع، وذلك عبر مناهجه وطلابه الوافدين من كافة أنحاء العالم تأكيدًا على رسالته العالمية، حيث يدرس به طلاب وافدون من مائة وثلاثين دولة يتجاوز عددهم ستين ألف طالب يدرسون العلوم الدينية والشرعية وكذلك النظرية والعملية ليعودوا لبلدانهم حاملين راية الوعي والتنوير التي حملوها من الأزهر الشريف. وهذا ما يؤكد مقولة الإمام ابن حجر الهيتمي والتي قالها منذ أمد بعيد: "ليس على وجه الأرض بقعةٌ جمعت من علماء الأرض وصلحائها ... كالأزهر". إنه كعبة العلم التي تشع نورًا من مصر المحروسة وقبلة حداة العلم وطلابه والوافدين إليه، فحق لنا أن نتغنى بمجد أزهرنا العريق ونشدو بقول الشادي (أحمد بن محمد الحملاوي): "من ها هنا بحر الشريعة قد جرى والعلم من تلك الرحاب تفجَّرا.. حامى حمى الشرع الشريف وأهله وإمام أهل الاجتهاد بلا مِرا....".

إن الأزهر هو بحق حامي حمى الشرع الشريف من قديم الزمان من أكثر من ألف عام وحتى عصرنا الحديث وأهله، فقد آلى الأزهر الشريف على نفسه أن يحمل لواء مسئوليته الدينية والوطنية لمواجهة ومجابهة كل من تسول له نفسه نشر الأفكار المتطرفة وهدم ثوابت الدين أو الإساءة له أو نشر الفتنة لتفريق الأمة أو نسيان قضاياها. وهو يؤمن إيمانًا راسخًا بأن الوحدة أساس القوة والنصر وأن التفرق والتشرذم أساس الهزيمة والخور والضعف والكسر، وهذا هو العمق الاستراتيجي في بناء الأمم عامة وفي بناء الأمة الإسلامية خاصة. قال تعالى في كتابه الكريم: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (آل عمران: 103). ويقول ﷺ: "إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا، يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ". ولله در المهلب بن أبي صفرة حين قال: "كونوا جميعًا يا بني إذا اعترى خَطبٌ ولا تتفرقوا آحادا.. تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرًا وإذا افترقن تكسرت أفرادا".

رفع الله راية الأزهر عاليةً خفاقةً، وأعز كلمته في ربوع الدنيا، وأبقاه ذخرًا وفخرًا لمصر وللعالم الإسلامي أجمع، ليظل خالدًا بخلود الإسلام، مرفوعةً هامة مآذنه لتناطح السحاب وقمم السماء، لتزهو رؤوس علمائه الأجلاء بشموخ تيجان عمائمهم البيضاء وعطر علمهم المنشور في شتى البقاع والأرجاء... والذين قال في حقهم أمير الشعراء أحمد شوقي: "قُم في فم الدنيا قُم في فَمِ الدُنيا وَحَيِّ الأَزهَرا، واِنثُر عَلى سَمعِ الزَمانِ الجَوهَرا.. وَاِذكُرهُ بَعدَ المَسجِدَينِ مُعَظِّماً لِمَساجِدِ اللَهِ الثَلاثَةِ مُكبِرا.. وَاِخشَع مَلِيّاً وَاِقضِ حَقَّ أَئِمَّةٍ طَلَعوا بِهِ زُهراً وَماجوا أَبحُرا.. كانوا أَجَلَّ مِنَ المُلوكِ جَلالَةً وَأَعَزَّ سُلطاناً وَأَفخَمَ مَظهَرا".

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة