5-3-2025 | 16:06

الأحلام تبقى دومًا "أسيرة الواقع"، وبالأمس فرضت حقائق الواقع نفسها على المشهد المضطرب في الشرق الأوسط، فقد تقدمت مصر لصدارة المشهد، وقيادة عملية التصدي لخطة "تصفية القضية الفلسطينية"، ولم تكن القاهرة تسعى إلى دور، بل إن أشقاءها العرب هم من اختاروا طواعية أن تتصدر القاهرة، وأن تنسق الجهود من أجل إعادة إعمار غزة، وإجهاض خطة ترامب وإسرائيل بتهجير الفلسطينيين من أراضيهم صوب مصر والأردن ودول أخرى كالسعودية وليبيا. 

ومثلما هو متوقع، شهدت القمة العربية الطارئة إجماعًا عربيًا لدعم القضية الفلسطينية، وتأكيد رفض خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتهجير الشعب الفلسطيني، وأرسلت "تأكيدًا عربيًا" على ضرورة وسرعة إعمار قطاع غزة دون تهجير لأهله أو تصفية للقضية الفلسطينية.
 
ولقد اختارت مصر أن توسع الفريق الذي يواجه أخطر تحدٍ يواجه العالم العربي، وحرصت القاهرة على التكاتف؛ لأن اللحظة دقيقة لا تحتمل المزايدة، ومرة أخرى أظهرت مصر صلابتها وقوتها دون صخب، أو محاولة ادعاء بطولات ليس هذا أوانها، ولا مكانها. لقد اختارت القاهرة "المبادئ على المصالح"، ولم تُجرِ "صفقة ضخمة" رغم كل المغريات على حساب الأمن القومي العربي. 

وأحسب أن موقف القاهرة المتزن يفسر ثقة الدول العربية في حكمة مصر وعراقة مؤسساتها الدبلوماسية، ورصانة أجهزتها السيادية والأمنية، وقوة المؤسسة العسكرية المصرية، والتي هي حجر الزاوية، والقوة المدافعة دومًا عن الأشقاء العرب في وحدة الدم والمصير.
 
ولقد حرصت القاهرة من اللحظة الأولى على إطلاع جميع العواصم العربية على خطة "إعادة الإعمار" التي أعدتها لقطاع غزة، لأن هذه هي النقطة الرئيسية والهدف من وراء تلك القمة، ومن المصلحة أن يكون هناك موقف موحد واتفاق حولها، ولم يكن هناك تجاهل أو إقصاء لأحد، فضلًا عن أن هذه قضية كل العرب، ولا يمكن تصور أن دولة أو عدة دول يمكن أن تمنع دولًا أعضاء من أن يكون لها دور في القضية.
 
وأكدت مصادر عربية مطلعة - قبل بدء أعمال القمة - أنه ليس هناك قلق من مستوى التمثيل في القمة، لأن الاجتماع يحيط به الزخم المطلوب منذ الإعلان عنه، فضلًا عن كون الدول التي تأكدت مشاركتها؛ سواء عبر زعمائها أو ممثلين لها هي من الدول الفاعلة والمشتبكة مع القضية، التي لا تنتظر من أحد أن يحدد لها دورها الطبيعي والمطلوب.
 
وفي الوقت نفسه، تتعرض مصر لحملة هجوم عنيفة، وعمليات تحرش من الجانب الإسرائيلي لابتزاز مصر، والتشويش عليها، وعلى موقفها الصلب دعمًا للاستقرار في الشرق الأوسط، وإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني، ورفض كل الإغواءات، ومحاولات الوقيعة بينها وبين الدول العربية، وذلك بمحاولة إشاعة أخبار كاذبة عن تأييد البعض لمشروعات إسرائيل المشبوهة. وعلى خلفية الشائعات والمزاعم بأن الجيش المصري يستعد لمهاجمة إسرائيل بشكل غير متوقع، قال وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، إن إسرائيل لن تسمح لمصر بخرق وانتهاك اتفاقية السلام. وأكد كاتس، في احتفال بذكرى وفاة مناحيم بيجن، أن "مصر أكبر وأقوى دولة عربية ولا تزال كذلك". ونوه بأن معاهدة السلام "أخرجت مصر من دائرة الحرب، في قرار قيادي غيّر وجه التاريخ ووضع دولة إسرائيل، ولا تزال كذلك حتى اليوم". لكنه استدرك قائلًا: "لكننا لن نسمح لهم بانتهاك معاهدة السلام، ولن نسمح لهم بانتهاكات بنيوية. نحن نتعامل مع الأمر، لكن الاتفاق قائم".
 
وأشارت صحيفة "يديعوت أحرونوت" إلى أن تصريحات كاتس جاءت على خلفية شائعات ترددها عناصر من اليمين المتطرف على شبكة الإنترنت عن استعدادات عسكرية مصرية لمهاجمة إسرائيل بشكل غير متوقع رغم معاهدة السلام.
 
وفي الآونة الأخيرة، كانت مصر وجيشها عرضة لهجوم سياسيين ومسئولين إسرائيليين، وقال عضو الكنيست زعيم حزب "إسرائيل بيتنا" اليميني المعارض أفيغدور ليبرمان الأحد الماضي إن تهجير معظم الفلسطينيين من غزة إلى سيناء المصرية حل عملي وفعال.
 
وفي الوقت نفسه، اقترح زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لبيد الأسبوع الماضي - في كلمة أمام مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات بواشنطن - أن تتولى مصر إدارة قطاع غزة الفلسطيني لمدة 15 عامًا، مقابل إسقاط ديونها الخارجية.
 
ومن ناحية أخرى، تعكس هذه التصريحات حالة من الهذيان نظرًا لأن القاهرة، وبالتعاون مع السعودية وبقية الدول العربية، نجحت في التصدي لتداعيات "حروب إسرائيل"، وحروب أمريكا التي لا نهاية لها في الشرق الأوسط، بل تمكنتا من احتواء تركيا وإيران، وبجهود مضنية تمكنتا من استعادة العراق، والآن تحاول احتضان سوريا لإعادتها للصف العربي بسرعة "رقمًا مهمًا" في حسابات القوة العربية. والمدهش أن القاهرة والرياض تنسقان وتعملان بحكمة حتى لا تغير الأحداث الأخيرة من "توازنات القوة" بالمنطقة أو بزوغ شرق أوسط جديد تعربد فيه إسرائيل.
 
وفي هذا السياق، فإن معهد القدس للإستراتيجية والأمن الإسرائيلي سخر من فكرة "شرق أوسط جديد" ما بعد "حزب الله"، وقال: "من السذاجة الاعتقاد بأن حدثًا واحدًا قد يغير المشهد السياسي في منطقة بأكملها، فحتى النهاية الحاسمة للحرب الباردة، والنصر الحاسم الذي حققته الولايات المتحدة على صدام حسين - وهما حدثان كان لهما تأثير دولي كبير - لم يحدثا إلا القليل لتغيير السياسة المحلية أو الدولية في الشرق الأوسط. ويعتقد المعهد أن الشبكة المعقدة من الديناميكيات المحلية والدولية لا تشجع على التعايش السلمي، وإذا كان السعي إلى تحقيق شرق أوسط أكثر سلامًا يشكل مشروعًا نبيلًا، فإنه يظل مهمة شاقة في الوقت الراهن".
 
ويخلص المعهد في تقريره إلى أن "الدرس الذي يجب على إسرائيل أن تتعلمه هو أنها سوف تضطر إلى العيش على سيفها لسنوات عديدة قادمة، ورغم أن فترات انخفاض التوتر، مثل تلك التي تتمتع بها إسرائيل مع مصر والأردن، ممكنة بالتأكيد، فإنها لا تعكس علاقة ثنائية مختلفة نوعيًا، مثل العلاقة بين كندا والولايات المتحدة، وإن الانتقال من علاقة غير عنيفة إلى صراع مسلح قد يحدث بسرعة، ولا بد أن تكون إسرائيل مستعدة لهذا الاحتمال".
 
ويبقى أن القمة مجرد خطوة في طريق طويل، وأحسب أن الوقوف خلف مصر في لحظات العواصف والأزمات الكبرى أمر حتمي، ولكن العمل العربي المشترك والحالة العربية تتطلب الكثير من المصارحة والمصالحة، وذلك نظرًا لحجم الهجمة على مصر والسعودية وبقية الدول العربية. لقد حان الوقت لخطة طريق جديدة للعمل العربي في هذا "الزمن العاصف".

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة