قد يُقاس تقدم المجتمعات باحترام ومكانة النساء فيها، وبعد كل تلك الحضارة والتطور الإنساني نجد أنه للأسف تتراجع النظرة للنساء وقدراتهن ومكانتهن الاجتماعية، فعند النظر لعصور سابقة قد تمتد لآلاف السنوات لوجدنا أهم دول العالم تحكمها النساء وتحقق نجاحات وتطورًا وقوةً لا يزال العالم كله يقف عندها، ورغم ذلك ومع تراجع النظرة للنساء تراجعت المجتمعات التي كانت تقود الدنيا وأصبحنا نطالب الآن فقط بالمساواة السياسية والاحترام الاجتماعي أو حتى عدم ممارسة العنف ضد النساء.
من هنا سعدت للغاية بصدور كتاب الدكتور سراج الدين ياسين "ألهمن العالم" عن المركز الإعلامي العربي، فقد تكون بداية للحديث المكثف وتغيير الثقافة السائدة التي يتم الترويج لها بالتقليل من شأن عقل وقدرات وعمل حواء في كل المجالات، وأدعو لتدريس هذا الكتاب المهم في المراحل الدراسية المختلفة عسى أن يساهم في خلق ثقافة أخرى تحترم المرأة وتعطيها وضعها اللائق.
أكثر ما لفت نظري في منهج التفكير الذي اتبعه الكاتب هو التنوع الكبير في الأزمنة والأماكن والجنسيات والمراحل التاريخية للشخصيات التي تناولها كنماذج لكتابه، فهناك مثلًا الملكة حتشبسوت المصرية الفرعونية وهناك الملكة إليزابيث الأولى، ومن عصر آخر تأتي العالمة ماري كوري التي سجلت كأول سيدة تحصل على جائزة نوبل في الفيزياء 1903، بعد ذلك تأتي الكاتبة أجاثا كريستي، والأم تريزا صاحبة الأيادي البيضاء أينما حلت، حتى نصل لأوبرا وينفري التي لا تزال على قيد الحياة وتلهم رحلتها المهنية والإنسانية الملايين في العالم كله، وغير ذلك من نماذج سيدات تم اختيارهن من مختلف العصور والبلدان والمهن اختلفن في كل شيء واتفقن في التأثير.
للوهلة الأولى قد نشعر أن المعلومات عن كل مُلهِمة قد تكون متوافرة خاصة مع صدور العديد من الكتب والدوريات العلمية والثقافية عن كل سيدة منهن بلغات مختلفة وترجمتها إلى معظم اللغات، بل وقد الحديث عن بعض منهن في بعض المناهج الدراسية أو البرامج التليفزيونية وغيره، لكن هذه النظرة قد تظلم العمل لأن الجهد البحثي الواضح فيه يؤكد لنا أن ما تم جمعه من معلومات وإعادة عرضها في كتاب "ألهمن العالم" ليس مجرد معلومات متداولة عادية لكن فيه جهد بحثي واضح يختلف كمًا وكيفًا وعرضًا عن كل المعروض سابقًا عن كل مُلهِمة سيدة منهن، فقد نكون شاهدنا أو قرأنا عن حياة أوبرا قبل الشهرة وبعدها أو عن أعمال الأم تريزا الخيرية في بلدان كثيرة أو عن سبب حصول ماري كوري على جائزة نوبل أو قرأنا بعض روايات أجاثا كريستي، لكن جمع مكثف لهذا العدد على مر العصور بمعلومات عامة وخاصة عن رحلة كل منهن وتكثيف العدد بهذا الشكل يدعم فكرة قدر ومكانة وإمكانيات النساء ومنجزهن عبر حقب إنسانية مختلفة لخدمة مجتمعاتهن وتعدى ذلك لخدمة الإنسانية.
التوليفة النسائية الفاخرة اللاتي انتقاهن بمهارة وتوجه إنساني واجتماعي كاتب واعٍ في كتابه عن سيدات أصبحن رُسُلًا للإنسانية والحب والعطاء تأتي أهميته من إطلاقه كفكرة وكقصص مجمعة وقت ارتفاع جرائم العنف ضد النساء في مصر إلى 1195 واقعة فقط بالعام الماضي 2024، والحقيقة أنه لم ينفرد المصريون فقط بهذا الحال، لكن ذلك للأسف حال النساء في العالم كله حتى بالدول المتقدمة نجد وضع النساء لا يرقى للوضع المنشود، باختلاف درجات التمييز ضدهن سواء اجتماعيًا أم سياسيًا حتى بأكثر دول العالم تقدمًا كما أكد السياسي الكبير الدكتور مصطفى الفقي في مقدمته الموجزة عن الكتاب أنه بعد الانتخابات الأمريكية الأخيرة وخسارة كامالا هاريس أمام دونالد ترامب وقبلها هيلاري كلينتون الأمر الذي تعالت معه نغمة أن الشعوب مهما رفعت شعارات المدنية والتقدم لكنها لا زالت ترى النساء في مرتبة أقل من الرجال.
قدم السياسي المخضرم الدكتور مصطفى الفقي في مقدمته تحية للكاتب الشاب سليل العائلة السياسية العريقة والبيت المثقف الذي نشأ فيه وانتمى إليه، وهنا نقدم إشارة مختلفة عن الوضع السياسي والثقافي وهي أن الأسر سليلة (الأصل الطيب) تربي رجالًا يحترمون النساء ويعطونهن قدرهن؛ سواء أكانت المرأة أمًا أو زوجة أو ابنة أو زميلة أو أي سيدة أو فتاة يتعامل معها في المجتمع أو حتى في الشارع، نؤكد أننا نحتاج بشدة للمزيد من كتب تبث ثقافة احترام النساء والمزيد من (أولاد الناس) الذين يحترمون بحق كل النساء.
في حفل التوقيع المميز للكتاب وبحضور نخبة من صفوة المجتمع الثقافي والاجتماعي المصري طرحت الإعلامية الشهيرة سهير شلبي سؤالها عن الألم في حياة هؤلاء السيدات وأنهن جميعًا افتقدن الحب أو لم يعشن حياة عاطفية مستقرة أو سعيدة، وجاءت الإجابات من الدكتور مصطفى الفقي ومن الكاتب سراج الدين ياسين أن الألم كان حافزهم لترك بصمة مختلفة في العالم كله لم يعشن بالتأكيد كأي امرأة مستقرة سعيدة تهتم بأسرتها ونفسها فقط.
في الحقيقة إن هذا السؤال أثار عندي مجموعة أفكار منها هل حرمان الأم تريزا من الحب جعلها في مكانتها أو أن نجاح أوبرا وتأثيرها بالعالم كله لأنها مجرد امرأة فشلت في الحب؟
ولأنني متحيزة مسبقًا لكل امرأة تحدث عنها الكتاب أجبت عن أسئلتي وأقول بيقين الآن إن كل السيدات الملهمات قد امتلكن فائضًا من الحب قد عوض الحرمان الكبير من استقرار الحياة الأسرية في بداية حياة معظمهن وعن وجود حبيب أو زوج أو حتى أسر وأصدقاء داعمين، بل وأفاض الحب بداخلهن على أنفسهن ومجتمعاتهن والإنسانية جميعها في معظم الحالات المختارة كنماذج ملهمة لسيدات أفضن بالحب والنور على الجميع.